بقلم:سوسن الأبطح
من عجائب الزمن الذي نعيش أن تتمكن شركة مثل «مايكروسوفت» من دفع مبلغ 68.7 مليار دولار نقداً، لتستحوذ على شركة الألعاب الأميركية الضخمة «أكتيفيجن بليزارد» منتجة «كاندي كراش» و«كول أوف ديوتي»، شديدة الشعبية، في الوقت الذي تعاني فيه القوى الكبرى، من ديون وعجز، تجاوز في الولايات المتحدة نفسها 28 تريليون دولار. أي أن كل أميركي، في رقبته ما يقارب 150 ألف دولار ديناً. صفقة «مايكروسوفت» الخيالية صعقت رئيس البنك الدولي، ديفيد مالباس، الذي لم يتمكن من إلزام 48 دولة مقتدرة على التعهد بدفع تبرعات تفوق 24 مليار دولار، لمساندة الفقراء والجوعى، تُسدَّد على ثلاث سنوات. والجميع يعلم أن الوعد لا يعني التسديد، والتعهد دولياً قد يبقى الكثير منه كلاماً في الهواء.
لكنّ «مايكروسوفت» ليست وحدها من دوّختها إغراءات سوق ألعاب الفيديو، بعد أن حلّقت في أثناء فترة الحجر المنزلي، وفاقت أرباحها كل التوقعات. أيام قبلها كانت شركة الألعاب المنافسة «تيك - تو إنتراكتيف» قد أعلنت بدورها أنها ستشتري «زينغا»، منتجة لعبة «فارم فيل» الشهيرة مقابل 11.04 مليار دولار نقداً وأسهماً. أخبار مليارات الألعاب، تأتينا تباعاً كالشلالات الهادرة، ولا نعلم كم تدفع «غوغل» على إطلاق منصتها «ستاديا» للألعاب التي يروّج أنها قد تبتلع عمالقة في المجال مثل «سوني» و«مايكروسوفت»، و«نينتندو» لأنها ستمكّن روادها من اللعب عبر بثّ الإنترنت من دون الأجهزة المنزلية التقليدية التي ينتجها منافسوها. كما أن الآفاق مفتوحة أمام «نتفليكس» التي لم تعفِ نفسها هي الأخرى من انتزاع حصتها.
كل هذا التناتش، ويُراد لنا أن نصدّق أن ألعاب الفيديو تأخذ بعين الاعتبار الصحة النفسية للاعبين، وغالبيتهم من الأطفال. فبعد أن أُطلقت صرخات تحذّر من مخاطر العنف، والتلاعب بالمشاعر، ودسّ السمّ في التسلية، يخرج علينا باحثون اليوم ليهدئوا من روعنا. إذ إن ألعاب الفيديو، بالنسبة إليهم كالروايات وأفلام السينما والمسلسلات التلفزيونية، تختار منها ما يناسبك. فيما الألعاب لا تذهب إلى المكتبة لتشتريها، ولا تقطع تذكرة، كما أنك لست بالضرورة محاطاً بالعائلة حين تتعامل معها، بينها ما هو قديم بسيط، تحول إلى إلكتروني، لكن غالبيتها يُبتكر يومياً ويُزجّ به على المنصات دون رقيب. يقال إن في السعودية وحدها 21 مليون لاعب، وقسْ على ذلك عربياً، لألعاب لا نبتكرها، ولا ندرس مضامينها، ولا نستفيق على مخاطرها إلا بعد رواجها والتشبّع منها والتثبتّ من وجود ضحاياها.
يتعفف الباحثون الغربيون عن إعطاء إجابات قاطعة، منهم من يقول إن إدمانها ليس مرضاً، وإلا كان إدمان القهوة مما يستحق العلاج. وثمة من يرى أن لعبة يقتل فيها الطفل مئات الأشخاص بدم بارد ليست سوى تنفيس مؤقت عن غضب ينتهي بانتهاء الجولة ويعود بالراحة على القاتل. ويراد التخفيف من مخاطر مشاهد الحروب والشرّ، وتنزيه مطلقي الأفكار السوداء. صحيح أن ثمة فوائد من بعض الألعاب، وأن زمن العروسة والسيارة وجلْي الصحون ولّى إلى الأبد، لكن التهوين من شأن ما بات سحراً للأطفال وشغلهم الشاغل ليس بالأمر الصحي. تتقاعس الدراسات السوسيولوجية العربية والنفسية عن التعمق في معرفة التأثيرات. لا نرى اهتماماً يُذكر بانعكاس مضامين بعض الألعاب على السلوكيات المدرسية أو العلاقات العائلية. غالبية المقالات السريعة، تتحدث عن فوائد الألعاب وقدرتها على تنمية الحس الاستراتيجي، والتركيز، وحل بعض المعضلات، وتشغيل رد فعل اليد مع العين، وتقوية الملاحظة... جميل، لكن تكاد الأضرار المذكورة تتوقف عند هذا الحدّ مع التركيز على الإدمان، وهدر الوقت، والانطوائية والسمنة وتقوس الظهر... كأنما لا قيم للمجتمعات ولا مبادئ أو حسّ أو ثقافة تتعرض للتشويه من بعض الألعاب. كل لعبة لها خلفيتها، وهويتها، وقصتها، ومراميها العميقة، وتأثيراتها النفسية، فهل يُعنى بها الرقيب كما يتلصص على الكتب والأفلام والأغنيات؟
من أرسطو إلى اليوم، لا يزال موضوع تأثير الخيال على ما نعيشه في واقعنا مطروحاً، لكنّ الخيال أصبح ثلاثي الأبعاد، مندغماً بمؤثرات، حتى يكاد يمتزج باليومي ويوقعنا بالتباس، من هنا تأتي الخطورة.
الألعاب الإلكترونية ليست للتسلية فقط. «هي من أكثر الممارسات الثقافية شيوعاً، عابرة للمجتمعات والطبقات، منتشرة بين الأطفال والشباب، عليك أن تنظر إليها كثقافة، لا بل كأرخبيل من الثقافات المرحة» كما يصفها ماتيو تريكلو، الفيلسوف الفرنسي المتخصص بهذه الظاهرة التي تجتاح البيوت، ويبدو أنها لم تبلغ ذروتها بعد.
رغم الدراسات المتناقضة والمتضاربة حول ألعاب الفيديو، واستماتة تجارها في الدفاع عن فوائدها الجمّة، كما حصل قبلاً مع السجائر وبعض المشروبات، فإأن «منظمة الصحة العالمية» أدرجتها قبل ثلاث سنوات، في خانة الأمراض، تحت مسمى «اضطراب ألعاب الفيديو»، معتبرة أن أعراضه منتشرة في أجزاء كثيرة من العالم، طالبةً من المهنيين الصحيين إيلاء اهتمام متزايد لمخاطر تطورها. لكن الظاهر هو أقل ما يخيف، الخشية الفعلية هي من التدمير القيمي والمجتمعي، بعيد الأمد، لشعوب هي في تيه الانتماء والهوية، وفي صراعات داخلية عنيفة. وحين تعرف أن كلاً يحاول دسّ آيديولوجياته في ألعابه، وأفكاره في تساليه، وأن اليمين المتطرف صارت له يد طولى في جزء من هذا القطاع، وأن الألعاب الشائعة والمحبوبة عندنا هي غربية بنسبة 100%، وأن الألعاب المحلية رغم كل المحاولات، لم تبلغ المستوى المغري والمقنع، لا بد أن تستشعر أكثر أن مقابلة هذه المنتجات بالاستسلام بدل الوعي والتشريح المتمعن، لَهو، حقاً، العبث بحد ذاته.