بقلم: سوسن الأبطح
هذه المرة، وخلافاً لكل المرات السابقة التي لم يعرف فيها اللبنانيون من المسؤول عن انهيارات طرق، وفيضانات أنهار، وتكوم نفايات، وتبخر الدولار، وإفلاس الدولة، عليهم أن يصروا على معرفة كيف تجمع منهم التبرعات، وتشترى 3 طائرات «سيكورسكي» لمكافحة الحريق، تم الاحتفاء بها وكأنها الخلاص الأخير، ثم عند الحاجة يقال لهم إنها لم تعد صالحة للاستخدام.
تلك حقاً صدمة لمن واكبوا شراء هذه الطوافات، ورأوا كيف استخدمت لثلاث سنوات، ثم أحيلت إلى التقاعد في غفلة من الجميع، وكأنها لم تكلف 14 مليون دولار، أو كأن بلاد الأرز لا مواسم دورية للحرائق فيها، ولا خطر على شجرها وزرعها، وهو كل ما تبقى لها، علماً بأن دراسة تحصي أضرار الحرائق، بينت أن 25 مليون متر مربع من الغطاء الأخضر يخسره لبنان سنوياً بسبب اندلاع النيران. وتتفاوت أحجام الحرائق من سنة إلى أخرى، إلا أن شراء الطوافات جاء تحديداً بعد موسم قاسٍ، كالذي شهدناه هذه السنة.
وما لم يقل كفاية، هو أن يومين من الجحيم اللذين اندلعت خلالهما أكثر من مائة بقعة حريق، توزعت من شمال لبنان إلى جنوب بيروت، كان يمكنهما ألا ينتهيا بهذا الحد من الخسائر، وكان يمكن للكارثة أن تكون أفظع بكثير، لولا تدخل إلهي أنقذ الناس.
فالنيران كانت قد استفحلت إلى حدٍّ من المحال محاصرتها بالإمكانات شبه المعدومة للدولة، وحتى الطوافات القبرصية بدا أنها وصلت متأخرة، وقدرتها ضعيفة أمام هول الجحيم المندلع، وكثرة المواقع المشتعلة.
اليومان الملتهبان كانا كفيلين بالإتيان على آلاف الأشجار. تحولت أراضي بعض القرى إلى رماد، ذهبت أحراش كاملة من الصنوبر والسنديان. أكلت النيران شجرات الزيتون أمام أصحابها، ووصلت إلى بيوتهم. من المفيد التذكير أيضاً بأن بعض البلدات تحترق للمرة الثانية خلال عشر سنوات.
وإذا من تحية في هذه المناسبة الحزينة، فهي إلى هذا الشعب المعذب، الذي أثبت أنه تحول بفعل إهمال الدولة المزمن، إلى مجموعة من المتطوعين النشطين، الذين هبوا كرجل واحد. كلٌّ سعى بما يملك، هذا يقدم منزله، وذاك يفتح مطعمه لإعداد الوجبات، وغيرهم يشرع أبواب فندقه لمن أصبح في العراء. وأخذ المتطوعون ينتقلون في المناطق حيث تتطلب الحاجة، حاملين المياه وما تأمَّن لمساعدة المنكوبين.
من المفارقات أنه في اللحظة التي تضامن فيها الناس أجمعين ولم يعد تميزهم منطقة أو حزب، كان ثمة نائب يتحدث عن دين النيران ومذهبها، وأنها تشتعل في مناطق بعينها! لتعتذر كتلته بعد ذلك. هؤلاء أدمنوا الخطاب الطائفي، وبات من الصعب برمجتهم على موجة أخرى. الناس يتجاوزون الطبقة السياسية، يتخطونها بأشواط. الوضع الاقتصادي، البطالة، فقدان الخبز، التهديد بوقف التزويد بالبنزين، كلها أزمات توحد المقهورين، أكثر بكثير من الخطابات الفئوية الممجوجة التي انتهت مدة صلاحيتها. ثمة صفحات تطوى، وجيل جديد ينبت له اهتمامات أخرى، وتطلعات لا تجيبه عليها أحزاب تعيش في القرن العشرين. التقصير الرسمي فاضح. رجال الدفاع المدني كان بعضهم بلا بدلات تقيه النار، هؤلاء غير مفهوم لماذا ترفض الدولة توظيفهم، وتتركهم مجرد متطوعين! لماذا تخترع الوظائف للمحاسيب وتدفع لهم الرواتب من دون دوام أحياناً، ويُحرم من يرمي نفسه في النار فداء لغيره؟! رأينا أطفالاً يطفئون لهب الجبال بسواعدهم الصغيرة، وهم يعبئون الماء بطناجر المطبخ. شاهدنا أصحاب صهاريج خاصة ينقلون الماء بمبادرة شخصية منهم، ويقطعون المسافات لإطفاء الجحيم. فنانون يهبون لنقل ما أمكنهم للمتضررين. بقدر ما كان المشهد السياسي مؤلماً، وتقصير الدولة فادحاً، والخطاب الرسمي مزعجاً، كان الشعب متوهجاً حباً وتعاضداً وتكافلاً وصداً للأذى.
ماذا لو لم تمطر السماء مساء الثلاثاء الماضي؟ ماذا لو لم تمطر بالقدر الكافي؟ هذا سؤال علينا أن نكرره بإلحاح؛ لأن السماء ليست دائماً على الموعد، والنجدة الإلهية ليست بالضرورة حليفة للمتقاعسين الراغبين في تسليم أقدارهم للصدفة.
قمة السوريالية أن ترى مراسلة تلفزيونية مع اندلاع الحرائق، تصرخ أمام الكاميرا وبيدها الميكروفون مع بزوغ الفجر، طالبة النجدة لأناس لم يسمع استغاثتهم أحد. ثمة أسئلة كثيرة. كيف تصل التلفزيونات قبل المسؤولين؟ لماذا يعرف الإعلاميون قبل الوزراء والنواب؟ وهل قوة لبنان في إعلامه؟ وضعفه في ساسته؟ كيف يمكن أن تقرأ تلك الساعات القاهرة البشعة، التي تفحمت خلالها آلاف الأشجار، بانتظار وصول طائرات من قبرص، والطائرات اللبنانية جثة هامدة، كل مسؤول يفسر سبب إهمالها، برواية تختلف عن غيره؟ هل حياة الناس هي رهن اجتهادات شخصية، ورغبات مزاجية، وترتيب أولويات عشوائية؟
حرائق لبنان لم تكن مفاجأة لأحد. البغتة جاءت من حجمها وكثرة عددها وتفرقها في المناطق، ثم اتساع رقعتها وتمددها وإفلاتها من أي سيطرة. ذاك أن الموسم الخريفي هذا معروف بسخونة هوائه وجفاف النبت، الذي يصبح اشتعال النار فيه يسيراً عند أدنى خطأ بشري. وبما أن الأخطاء في بلداننا هي من أكثر المتوفرات، والنيران لا بد تنشب عندما تكثر الأشجار، وتتعالى الجبال بكسوتها، فالمفترض أن أدنى درجات الحيطة هو توفير أدوات المكافحة التي تتناسب ووعورة الوديان، وتأهيل الكوادر البشرية، وتوظيف الحراس، وفتح المسارب بين الشجر لتسهيل المرور عند الضرورة. كل هذه العشوائية لا تبشر بخير.
هذه المرة خسرنا قتيلاً بعمر الورد، قضى بسبب شهامته واندفاعه، وأصيب العشرات باختناقات جراء الدخان الكثيف. الإهمال يقتل، الفساد يدمر، وألا نعرف هذه المرة من هو المسؤول، معناه أن الـ«سيكورسكي»، بما باتت تحمله من رمزية، لن تعود إلى العمل، وأن الحرائق ستبقى مشتعلة.