بقلم: سوسن الأبطح
في لبنان أكثر من 600 دار نشر مرخصة، لكن الناشرين قلة، والأفذاذ بينهم ندرة، ومن مهدوا جسور فكر وثقة مع القراء، واعتبروا الكتاب رسالة، والكلمة أمانة، هم وحدهم من ستبقى ترتبط كتبهم بأسمائهم، ومطبوعاتهم بمساراتهم. ولا يرحل رياض نجيب الريس عابراً كما أتى إلى هذه الفانية، لأنه جاهد من أجل رؤية محددة؛ محاربة «تصلب شرايين الديمقراطية، ووأد الحرية». هكذا وضع حريته فوق كل اعتبار. تغلق الأبواب في وجهه هنا، فيفتح نافذة هناك، يطرد من صحيفة، فيطلق دار نشر. يغلق مكتبه في لندن، فيفتح مجلة في بيروت، وهو متيقن من أنها محدودة الأجل. ما يعنيه، هو «أن يقول كلمته ويمشي» هو العاشق لأمين الريحاني، والمفتون بالإصلاحي الكبير عبد الرحمن الكواكبي. رجل منذور للعمل، للكدّ، للتفلت من الحسابات الصغيرة، مشغول بتوسيع الأفق ما استطاع، بالتفلت من عمى الآيديولوجيات والعصبيات، التي فتكت بأبناء جيله، وكان حزيناً لذلك. ولم تكن محاججاته، ومنازلاته، وعناوينه الأخاذة، إلا جزءاً من معركته الكبرى.
صحافي ولد، وصحافي رحل، لكنه بين اللحظتين، جرّب، واختبر وابتكر وأبدع. كتب الشعر وهو لا يزال طالباً في بريطانيا، لكن صديقه يوسف الخال، فضّله في مجلته مدبّج تحقيقات صحافية، ومقالات نقدية، ورفضه شاعراً. لم ينشر له في «شعر» غير قصيدة واحدة، بعد سنوات طوال، من صدور ديوانه الأول «موت الآخرين»، من باب المسايرة المتأخرة. مع أن الريس كان حاضراً بقوة في المجلة، ثم أصبح من هيئة تحريرها. وبقي يكتب الشعر من دون أن يجرؤ على نشره. فهل كبح يوسف الخال موهبة الريس؟ وهل خدمنا حين أخرجه من ملكوت الشعر إلى رحابة العراك الثقافي الأرضي؟
«حيوان سياسي» هكذا وصف نفسه، لكنه كان دائماً رفيق الأدباء والفنانين ومكتشف مواهبهم، وناشر إبداعاتهم، ومحرض سوراتهم. من مجلتيه اللتين دمغتا مرحلتيهما؛ «الناقد» و«النقاد» تخرّج أدباء ورسامون بالعشرات، وكان معتداً بذلك. وضع الكاريكاتير في مرتبة لم تعط له في صحافة عربية من قبل، وجعل من أغلفة إصداراته، التي أولاها عناية فائقة، ماركة مسجلة له. أينما وضع لمساته رياض الريس تجده نسيج وحده. هكذا كان في «معرض بيروت للكتاب» وكأنما جناحه هناك، وجد دائماً، ليستقبل الزوار، بحضوره الطاغي، وكتبه الأنيقة الملونة، ويقطيناته الأثيرة، رافعاً كل سنة، شعاراً أقوى من الذي سبقه.
الريس المراسل السياسي من أقاصي الأرض، من فيتنام وزنجبار وسمرقند، والسبّاق إلى تغطية أخبار الخليج، سيبقى منه دوره الجبار في صياغة المشهد الثقافي العربي من بيروت. سنتذكر منه، جرأته، جسارته، احتضانه الأبوي للمواهب، تشجيعه المهمشين من المبدعين، إصراره على مشاكسة الرقابة، ومواجهة المحاكم. «أكتب اليكم بغضب»، لا مهادنة، ولا استراحة، حتى في «زمن السكوت» و«الخيبات» بقي يقول: «لا أحد منا يستطيع الزعم أنه بريء مما حلّ بأمتنا، كلنا مسؤولون، ومتهمون، فاعلون، ومستجيبون... يا لغضب التاريخ!»
لأسباب كثيرة، يذكّر رحيل رياض الريس وحيويته وسرعة غضبه، بسهيل إدريس صاحب «دار الآداب». ثمة صلة رحم بين السيرتين على تناقضهما. عروبيان من النمط الرفيع، وإن كان ادريس قد بدأ متشدداً ثم صار أكثر انفتاحاً، بعد مراجعات أو ما سماه توبة متأخرة، فإن الريس كان عربياً ليبرالياً يفخر بأنه لا يحدّ ولا يتنازل. كلاهما جعلا من داريهما عنواناً للهاربين من رقابات سرعان ما تتلاشى. في «دار الآداب» وجد نزار قباني قبلته ونجيب محفوظ نجا بـ«أولاد حارتنا» من الانتظار في الأدراج. وبقي الريس يقول: «لماذا أشطب كلمة من هنا وهناك، سيجد الرقيب غيرهما ليعترض عليه؟». وفضّل أن يوقف مجلتيه الأثيرتين، بعد طول نضال، على أن يقرأهما هو وجيرانه، حين ضاق عليه الخناق.
كلاهما جاء إلى النشر من موقع الكتابة، والفعل الثقافي المؤثر. أصدرا الكتب، بروح تبحث عن المنازلة، وفي نفسيهما تلك الأنفة المقدام، والرغبة في التغيير. قل ما شئت عنهما، لكنهما صنعا للأدب والكتابة العربيين، مجداً لن ينسى، كل على طريقته، ووفق هواه. واحد كان يرى في مجلة «شعر» نموذجاً للتحرر، حتى إن كانت لا توافق مزاجه، والآخر كان من مجلته «الآداب» يشن حملة على ما اعتبره تغريباً وتهجيناً في «شعر».
تلتفت حولك، ترى المقاعد تفرغ من هاماتها، والساحة تخلو من فرسانها، وإن كانت الداران الكبيرتان، في عهدة أمينة، فإن الفقد مؤثر حقاً. ما اتصلت يوماً بالريس أو إدريس مستفسرة عن قضية، إلا ووجدتهما حاضري الذهن، متحفزين للإجابة، متوثبين للدفاع الشرس عن مواقفهما، من دون تأتأة ولا تردد، لا يواربان ولا يداريان، مهما بدا السؤال صعباً، والمواجهة محرجة. خاضا حروبهما بشرف وجسارة، وقضيا واقفين كما تمنيا.
رائدان وصلا إلى عالم النشر صدفة. إدريس بدأ حياته شيخاً في كلية الشريعة، أسرته الوجودية، وترجم روادها، واختتمها كما دشنها أديباً بارعاً، إنما هذه المرة برتبة بوح مع مرتبة متفوق في مؤلفه الرائع «ذكريات في الأدب والحب». أما الثاني فبقي حتى الرمق الأخير صحافياً رغم أنه عزف عن المهنة، 20 سنة قبل أن يغمض عينيه، لأنها لم تعد تتسع لأفقه ولا تروي له طموحاً. «ليست مهنتي أن أكذب عليكم» قال رياض الريس ومضى.