توقيت القاهرة المحلي 14:21:48 آخر تحديث
  مصر اليوم -

الرقمنة حتى الموت

  مصر اليوم -

الرقمنة حتى الموت

بقلم:سوسن الأبطح

«ميرف» ظاهرة مثيرة لمائة سؤال. كثيرون لا يعرفونها، لكنها حظيت بملايين المشاهدات على قناتها على «يوتيوب»، مع أنها لا تقدّم طبخاً ولا أزياء، ولا تصميم ديكورات منزلية، وليس في مضمون فيديوهاتها مادة إباحية. هي مجرد طالبة في جامعة «غلاسكو»، تعلن عن برنامجها كل يوم اثنين، وكلما جلست إلى طاولتها للدارسة في الموعد المحدد، وجدت عشرات الآلاف بانتظارها، يشكرونها على إطلالتها، وعلى وجودها في حياتهم، وعلى مشاركتهم جلساتها الدراسية. أحد الفيديوهات شاهده أكثر من سبعة ملايين شخص، مع أنها لا تفعل غير القراءة في أوراقها والعودة إلى كومبيوترها الشخصي، وتستخدم أقلاماً للتأكيد على بعض الجمل، وأحياناً تشرب النسكافيه، بهدوء وبطء شديدين، يفترض أنهما يبعثان على الملل. الأغرب أن متابعيها لا يرون وجهها ولا حتى رأسها، ولا أي شيء منها. الكاميرا لا تريك غير يدين، تتحركان لتمسكا بالقلم أو تقلبا الورق أو تبحثا في دفتر، أو تلمسا أزرار اللاب توب، وهم مكتفون بذلك. ليس هناك موسيقى أيضاً، صوت الصمت، أو زخات المطر في أحسن الأحيان. لكن المكتب الخشبي بقرب النافذة الزجاجية المتسعة، يكشف عن مشهد اسكوتلندي لبيوت جميلة يعتليها القرميد وبعض الشجر. هكذا يقضي طلاب من أكثر من 160 دولة ساعات يومياً، مع ميرف، يتمتعون باستراحة عشر دقائق، كلما مرت خمسون دقيقة، وهم يشكرون الحظ - في تعليقاتهم - الذي أرسل إليهم هذه العطيّة، لتساعدهم على المثابرة، والتركيز، وتعطيهم القوة على الاستمرار.
هل نشعر بالشفقة على طلابنا؟ أم بالسعادة، لأنهم يجدون حلولاً لأزماتهم؟ الجائحة وعزلتها، كانت سبباً في تكثيف مثل هذه الظواهر. لكن تشتت الانتباه، وصعوبة التركيز سبقتا «كورونا». مع أن تقنية «بومودورو» لإدارة الوقت موجودة منذ الثمانينات، عندما طورها الإيطالي فرانشيسكو سيريلو، وتعتمد على تحديد الأهداف، واستخدام منبه كل 25 دقيقة من العمل لأخذ استراحة قصيرة، والعودة بنشاط، والانتباه إلى أن الثواني تمرّ سريعاً، إلا أننا لم نحتج لكل ذلك، حين كنا نرتاد صفوفنا بفرح وندرس بشهية ومتعة.
طفت «تقنية الطماطم» أو الـ«بومودورو» على السطح، صار لها تطبيقات عدة، للمساعدة على انتهاجها. الجيل الجديد، أصبحت هذه التقنيات، جزءاً من يومياته، وضرورة ملحة لكثيرين، كي يتمكنوا من مقاومة اللهو.
هناك أيضاً من يلجأ إلى تطبيق «فورست»، بعد أن صنّف بين الأكثر إنتاجية في 85 دولة، ووظيفته ببساطة أن يمنعك من استخدام هاتفك، لأنك تزرع شجرة، تنمو أثناء عملك، وإذا ما حاولت فتح أي خدمة أخرى، في هذا الوقت، ستتسبب في موت شجرتك، لذلك ستفضل أن تنظر إليها بين الوقت والآخر، لتفرح بنموها وتقاوم ميلك في التصفح العبثي. قد تبدو الفكرة ساذجة. لكن بدأت الهواتف تتسبب في كوارث رغم أهميتها. حتى الاستغناء المؤقت عنها يتسبب في قلق، ويبعث الوساوس. كتبت مجلة «ما سنتيه» الفرنسية قبل أيام، عما سمته «نموذج الرقمنة حتى الموت» لأن «التلامذة ما عادوا يعرفون كيف يكتبون بالقلم، ولا يريدون أن يبذلوا جهداً للكتابة على لوحة المفاتيح، لأنهم اعتادوا على إدخال الصوت (لتقوم الآلة عنهم بباقي المهمات)».
معرفة العواقب المقبلين عليها، في السنوات الآتية، لا تزال شحيحة، نحن في قلب التجربة. بسبب تسارع تدفق المعلومات، الشباب اليوم يمنحون بالمتوسط 8 ثوان لكل معلومة جديدة تصلهم، للحكم على مدى ملاءمتها أو التعامل معها، مقارنة بـ12 ثانية في عام 2000. التمرين على السرعة الفائقة، يعيد تشكيل العقول، ويتحكم في ردّات فعل المليارات الذين يستخدمون الهواتف.
نشرت «الغارديان» البريطانية مؤخراً مقطعاً من كتاب شائق ليوهان هاري، عنوانه «التركيز المسروق: لماذا لا تستطيع الانتباه»، يشرح فيه، أنه لا مجال، لأن يكون للإنسان دماغ طبيعي، وسط كل التأثيرات الدخيلة التي تحيط به. «طلاب الجامعات لا يركزون على أي مهمة، يكلفون بها، أكثر من 65 ثانية بحسب الدراسات، فيما الموظفون في المكاتب يركزون في المتوسط بشكل جيد لثلاث دقائق. مبالغة أم لا؟ تلك هي نتائج الدراسة التي ينشرها يوهان «هذا لا يحدث لأننا أصبحنا جميعاً ضعيفي الإرادة. تركيزك لم ينهَر. إنه مسروق».
لهذا تبدو «ميرف» لمتابعيها، كأنها مخلّص من جحيم «التشتت» والإحساس الجهنمي بالدوران في فراغ، أمام شاشة تنهش الوقت، ولا تكفّ عن ابتلاعه كغول لا يشبع. فمن عناصر سحرها، أنها لا تزال تستخدم دفتراً لتسجيل ملاحظاتها، وتعتمد الورق والكتب للدراسة، وكذلك تحديد المهم من المعلومات، بالقلم الملون.
كل همسة من «ميرف» باتت موضع فضول متابعيها. ولا نعرف إن كان هذا اسمها الحقيقي، وهل هي طالبة بالفعل؟ وكيف تجد الوقت للتصوير والمنتجة؟ يسألها متابعوها عن اختصاصها، مع من تعيش؟ عن سرّ قدرتها التنظيمية الفائقة، نوع دفاترها؟ أقلامها، هاتفها، كومبيوترها، شموعها، موقع عملها، وحتى الكاميرا التي تستخدمها في التصوير. والطريقة التي تنظف بها نافذتها اللمّاعة. هكذا صار بمقدور «ميرف» التي يفترض أنها المنقذ من الدورة الافتراضية القاتلة، أن تعيد إغلاق الدائرة التسليعية لتطبق على متابعيها، بالترويج لكل ما تصوره كاميرتها، كما كل المؤثرين الآخرين، للأماكن التي تتنزه بها، والمشروبات التي تحبها، والشموع والنباتات التي تزين بها طاولتها. وهي من الآن، جعلت اسكوتلندا مشتهى الملايين، حتى أولئك الذين لا يعرفون تحديد موقعها على الخريطة.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الرقمنة حتى الموت الرقمنة حتى الموت



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 22:50 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

بشرى تكشف عن أمنيتها للعام الجديد
  مصر اليوم - بشرى تكشف عن أمنيتها للعام الجديد

GMT 10:34 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

الوجهات السياحية الأكثر زيارة خلال عام 2024

GMT 10:38 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

إطلالات أنيقة وراقية لكيت ميدلتون باللون الأحمر

GMT 10:52 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

بيلا حديد في إطلالات عصرية وجذّابة بالدينم

GMT 09:38 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

نصائح سهلة للتخلص من الدهون خلال فصل الشتاء

GMT 21:45 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

فجر السعيد تفتح النار على نهى نبيل بعد لقائها مع نوال

GMT 08:46 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

مبابي يكشف سبب منعه من الاستمرار مع سان جيرمان

GMT 20:43 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

الأمير هاري يتحدث عن وراثة أبنائه جين الشعر الأحمر

GMT 20:11 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

تكريم توم كروز بأعلى وسام مدني من البحرية الأميركية

GMT 09:56 2021 الجمعة ,01 كانون الثاني / يناير

أعد النظر في طريقة تعاطيك مع الزملاء في العمل

GMT 12:18 2016 الإثنين ,12 كانون الأول / ديسمبر

الروح والحب والإخلاص " ربنا يسعدكم "

GMT 23:59 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

اتفاق مبدئي على إعادة تشكيل السلطة التنفيذية في ليبيا

GMT 18:11 2024 الخميس ,05 أيلول / سبتمبر

3 تحديات تنتظر الزمالك قبل غلق الميركاتو الصيفي

GMT 07:33 2019 الثلاثاء ,12 تشرين الثاني / نوفمبر

"سيسيه يؤكد رفضت عروضا من أجل البقاء مع "الاتحاد

GMT 05:59 2024 الأحد ,14 تموز / يوليو

محمد النني يقترب من الدوري السعودي
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon