بقلم: سوسن الأبطح
يتفتت العالم ويتشظى، وتنجح أوروبا في لمّ شملها، بذكاء تغبطها عليه الأمم. ومن كان يظن أن إيطاليا وإسبانيا قد أنزلتا علم الاتحاد وإلى الأبد، بعد أن تُركتا وحيدتين معلولتين، خلال أزمة «كورونا»، يجد أنهما سرعان ما حُضنتا، ووجدتا من يربت على الكتف المتعب، مع انزياح الغمة، واستفاقة الشركاء من الغفلة.
خرجت أوروبا من هول الجائحة منهكة، تتآكلها البطالة، وتطاردها الخسائر، وتفوح منها رائحة الجثث، وتتهددها الموجة الثانية التي قد تكون أعتى.
حدث أن تبادل الشركاء الأوروبيون التهم، وتعامل البعض بأنانية، واستاءت شعوب من أخرى تأتيها بالوباء، وصلت إلى حد التنابذ، وزغرد المتطرفون، الشعبويون لاقتراب الفرج. لكن الفطنة تستدعي التعالي على الجراح، ورؤية المشهد من أعلى من دون الدخول في متاهات البغضاء، والثأريات الصغيرة المدمرة. تمكن الثنائي (ماكرون – ميركل) رغم كل ما يفرقهما في المزاج والرؤية، من وضع خريطة طريق أولية، تعيد الاتحاد أقوى مما كان. تلك عملية قيصرية، سيسجلها التاريخ لميركل في نهاية عهدها، ولماكرون المحاصر من شعبه بانتقادات دامية.
بدل أن تنهار إيطاليا، وتأخذ بجريرتها الحلم الأوروبي برمته، قرر القادة بوعيهم، إنقاذ مشروعهم الوحدوي، لا بالترقيع والتجميل، بل بالقفز إلى الأمام، صوب إعطاء مزيد من الصلاحيات للمفوضية الأوروبية، وهو ما أثار، دائماً، الحفيظة والخوف. رغم أنف المتشددين والمتقوقعين، اجتمع العقلاء في بروكسل أربعة أيام بلياليها، في لقاء عاصف، هبت فيه رياح الرفض والتهديد بالانسحاب، «لكن كلاً منا تقدم خطوة باتجاه الآخر» بحسب ماكرون، ببساطة «لأن أي اتفاق هو أفضل وأربح للجميع من اللااتفاق»، «ولأن العالم المثالي غير موجود، وبالتالي ليس من اتفاق مثالي في النهاية».
ستسهم ألمانيا، التي قليلاً ما كانت سخية على الكسالى والمتعثرين بجزء مقدّر، وتستفيد إيطاليا من حصة تتجاوز 200 مليار يورو. يساند الأقوياء الضعفاء حين يكون حلم التوحد يقظاً، وهذا له بعد أخلاقي، لكنه لا يكفي.
تدرك أوروبا أن أميركا تتخلى عنها ولا تعفيها من الضرائب حين تستطيع، ووصل الحال إلى حد سرقة أقنعة الأوروبيين ومعداتهم الطبية من التجار الصينيين، ومحاولة السطو على اللقاح الألماني، وقبلها التجسس على هاتف المستشارة ميركل. لم تعد أميركا الأخ الأكبر الوفي، والصين هذه المرة لن تجود بميزانيات طائية، لإنهاء الركود كما فعلت عام 2008، وهي في حرب تجارية طاحنة مع الولايات المتحدة، وإردوغان في الجنوب لا يرحم، وبوتين يكلل نفسه مدى الحياة. لم يعد لألمانيا غير عمقها الأوروبي، وفرنسا الحالمة دائماً بدور مفتاح تجد في مكانتها المحورية بين جيرانها إنقاذاً لها من عثراتها. كل وجد في الاتفاق ما يرضيه. الدول الغنية المحتجة مثل هولندا والنمسا والدنمارك والسويد، أعطيت ما يطمئنها، والمتعثرة الغاضبة مثل إسبانيا وإيطاليا، ستحصل على ما ينتشلها من خسائر متدحرجة.
الاتحاد يواجه ما بعد «كورونا»، بمبالغ تجاوزت في مجملها الميزانية المهولة التي خصصها ترمب لبلاده. احتسب ما سيدفعه البنك المركزي الأوروبي، وحكومات الدول، وما سيغدقه الاتحاد، في حيز جغرافي هو الأقل مديونية في العالم، ترى أنك أمام مشهد مضيء، في زمن يعم فيه الظلام، ويسوده الحقد والتشرذم.
بعد أن تم الاتفاق على معجزة بروكسل، وصف ماكرون ذاك اليوم بأنه «تاريخي». فما تحقق استجابة حاذقة، غاية في الديناميكية على أكبر تحدٍ يواجه الاتحاد الأوروبي منذ تأسيسه. 750 مليار يورو من الديون المشتركة قرر الاتحاد أن يأخذها على عاتقه مجتمعاً في تكافل نادر. مبلغ خيالي تستفيد منه الدول الأكثر تضرراً بين مساعدات وقروض بفوائد شبه معدومة، بعضها قد لا يسدد قبل 38 عاماً، من خلال ميزانية المفوضية مجتمعة.
جمع الاتفاق بين إنقاذ الاتحاد، وتوجيه ضربة للمتشددين، ومساعدة الأكثر ضعفاً، وتعويم دوري فرنسا وألمانيا، وإعادة الأمل إلى الناظرين للسياسات في العالم على أنها مجرد انتهازيات رخيصة وأنانيات غبية. وقبل كل شيء، توجيه رسالة قوية تقول إن أوروبا موحدة وقوية ووازنة.
اهتز الاتحاد في غمرة عاصفة «كورونا»، حتى كاد يقضي صريعاً. لم تكن الاستجابة الصحية على قدر المتوقع. بعضهم تحدث عن إحساسه بأنه يعيش في دول من العالم الثالث. تفوقت دول أخرى مثل سنغافورة وكوريا، في قدرتها على حماية مواطنيها. لكن أوروبا قررت ألا تستسلم لضعفها وأن تتغلب على ثغراتها بتضامن غير مسبوق.
أوروبا بنجاحها تشعر بأن الحكمة لا يزال لها مكان في السياسة، وأن الغد ليس مجرد نفعية سريعة، وجني أرباح مباشرة، وأن على هذا الكوكب، من يعرف كيف يقود سفناً إلى شاطئ النجاة، من دون سفك دماء، وشتائم، وتوزيع تهم ونشر جيوش وتوزيع مآسٍ. فالمال سيجمع من ضرائب على البلاستيك، والكربون، ومن الشركات الرقمية التي لا تزال تعيش في جنة ضرائبية. ثمة أفكار عصرية خصبة، ستكون مورداً لجمع المال. والمهم أن هذا كله يدور بين 27 دولة، لها لغات متباينة، وغالباً ما تستخدم الإنجليزية، كل يلجأ إليها على قدر معرفته، أو يستعان بالترجمات الفورية. ومع ذلك، فإن اللبيب لا يحتاج إلى ثرثرة ليفهم. نحن في لبنان نتحدث اللغة نفسها، ولنا اللهجة عينها، ومع ذلك نعيش وكأنما في برج بابل، بعد أن صار للكلمة الواحدة تفرعات من المعاني والتأويلات التي لا تنتهي. وما يعتبره الأوروبيون فترة قياسية للوصول إلى اتفاق، لأن الاجتماعات دامت أكثر من تسعين ساعة، فإن اللبنانيين على قلة عددهم وصغر بلدهم، بعد مائة سنة لا يزالون عاجزين عن شيء قليل منه. أيها الأوروبيون، لكم نرفع قبعاتنا!