بقلم:سوسن الأبطح
يمكن أن يقال الكثير في فيلم «فرحة» لدارين سلاّم الذي بدأ عرضه على «نتفليكس»، وسط عاصفة من الاحتجاج والغضب تقودها إسرائيل، وحملة أخرى معاكسة، لدعم الفيلم من قبل المتفرجين العرب الذين رأوا أن المنصة تنصف قضاياهم للمرة الأولى، وتعطي فلسطين جزءاً من حقها. لكن المشاهدين في عدة دول، وبينها فرنسا، يتهمون «نتفليكس» بأنها انصاعت للتهديد الإسرائيلي، وصعّبت العثور على «فرحة»، الذي صار يحتاج بحثاً على «غوغل»، رغم أنه من الأفلام الجديدة والمطلوبة، ويفترض أن يكون مكانه بارزاً على الموقع.
الأفلام حول فلسطين كثيرة، لكن التي تعود إلى نكبة 48 لتوثقها وتؤرشفها وتؤنسنها، ليست وافرة. وتمكنت سلاّم من أن تسرق قلب المتفرج، باختيارها كشخصية رئيسية لفيلمها طفلة في الرابعة عشرة من عمرها، يزيدها براءة وجاذبية، أنها تعيش حياة قروية بسيطة مع والدها، لا حلم لها سوى الالتحاق بالمدرسة، وأن يكون لها دفتر وشنطة وقلم.
جاء الاحتلال لينسف حياة «فرحة» ويحولها إلى مأساة. لم يعدّ همّ الصغيرة إقناع والدها بالعيش عند أقاربهم في المدينة لتلتحق بالمدرسة، بل كيف تخرج من سجنها، بعد أن حبسها والدها في غرفة تشبه القبو، وأغلق بابها بالإسمنت حماية لها من جنود الاحتلال الذي يعيثون فساداً، ويهددون من لا يرحل عن بيته بالقتل والاغتصاب.
من شقوق صغيرة في مخبئها تتابع «فرحة» جريمة فظيعة يرتكبها جنود الاحتلال، وهم يغتالون أسرة كاملة من أم وأب وأولادهما، بعد أن دخلت العائلة البيت ظناً منها أنه مهجور، حين باغت المخاض الأم.
ثمة من أخذوا على سلاّم قلة الضحايا، أو الاقتصار على مجزرة واحدة، لتصوير فضائع 48، واعتبروا أن الفيلم يرينا ما يحب أن يراه العالم من بشاعة إسرائيل وأفعالها، ليس أكثر، حين سلط الضوء على حياة طفلة في قبو مظلم. لم يأخذ المحتجون العرب، وهم قلة، بعين الاعتبار المشاهد المروعة التي تابعتها فرحة من فتحة صغيرة، أو الأحاسيس التي انتابتها، وما يمكن أن تفعله في نفس المشاهد. فاتهم أن أهمية الفيلم، هي في أنه قادر على اختصار النكبة التي شرّدت أكثر من 700 ألف فلسطيني، وقتلت ما يزيد على15 ألفاً، ببساطة أخاذة، وبمشاهد محدودة، لكنها مريعة، وعدد قليل من الضحايا، لكنهم عائلة بريئة تحاول الهرب بجلدها والخلاص بأطفالها، ومن بينهم الوليد الجديد.
في فيلمها الأول هذا أثبتت دارين سلام أنها تتمتع بحساسية عالية، ومهارة استثنائية في توظيف أصغر التفاصيل، من زقزقة العصافير، إلى صوت سكب الماء، إلى توليع خيط الكبريت. إنها النكبة يراها المتفرج بعيون الطفلة «فرحة»، وهو يتابع حدقة عينها المفجوعة، وهي تطل من الثقب، وليس أبلغ من عيون الأطفال ولا لغتهم.
حين سألت، ذات يوم، الراحل بهاء طاهر عن سرّ عذوبة القصّ في روايته الجميلة «خالتي صفية والدير» التي لا تتعدى مائة وأربعين صفحة. أجاب بأنه تقصّد أن يكون الراوي طفلاً، وبلغته يقص الأحداث كما رآها وأحسها. الصغير حسن يروي بعينيه البريئتين والقارئ يستمتع. تلك كانت مهمة صعبة ونتيجتها الأدبية جاءت مبهرة. الجمل قصيرة، الأفكار مكتنزة، لا إسهاب ولا إضجار، ولا استطرادات بلا جدوى. كلام الشخصيات بسيط، سلس، وهو ينقله لنا حسن، حتى لنتمنى ألا نصل إلى خواتيم الحكاية.
تذكرت وأنا أشاهد فيلم «فرحة» البديع، صفية والدير وبهاء طاهر، ولغته المصفاة. غالباً ما تأتي القصص التي تروى بعيون أطفال لذيذة، جذابة، حين تحترم رؤيتهم، ومنظارهم للعالم الذي يعيشون فيه. على هذا المنوال كتبت «تأتي» لكريستين دوير هيكي، و«صيف بارد جداً» لروي ياكوبسن.
بدأ عرض «فرحة» على «نتفليكس»، ومعه أخذ الهجوم على المخرجة دارين سلام، يأتي من كل الجهات. إسرائيليون هددوا بسحب اشتراكهم من «نتفليكس». أفيغدور ليبرمان رأى أنه «من الجنون أن تبثّ (نتفليكس) فيلماً هدفه خلق ذريعة كاذبة والتحريض على كراهية الجنود الإسرائيليين». أصدق الكلام كان على لسان محتج إسرائيلي يدعى شاي غليك، حين قال لوكالة الصحافة الفرنسية إن «حرية التعبير تقف عند معاداة السامية».
فللحرية سقوف كثيرة، ومعايير ليست واحدة، كما تريدها أو تدعيها منظمات حقوق الإنسان. لكن ما يعنينا أن «فرحة» يتابع مساره. وهو باكورة ملتهبة حرفية وإبداعاً لصبية موهوبة، ستكون من بين أهم المنافسين على الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي.
ومرة أخرى، الانتصار لفلسطين لا يكون بكثرة القتلى، ولا بشلالات الدماء، والنواح والدموع التي استغنت عنها كلياً دارين سلاّم، وإنما بالقدرة على تحريك المشاعر، وإيقاظ الوعي، وبث الرغبة في المزيد من المعرفة. الفيلم طعم جميل، وسمكة صغيرة لكنها دسمة ولذيذة.