بقلم: سوسن الأبطح
«يشعر الغرب بالإهانة، إذا ما شرع أبوابه للقاحين الروسي والصيني»، بحسب الباحث الفرنسي في الشؤون الدولية برتران بادي. لكن «سبوتنيك» فخر الصناعة الروسية، دخل أوروبا بالفعل، قبل أن يرخص رسمياً من الاتحاد، من باب المجر والتشيك، وتنتظر ألمانيا على أحر من الجمر لاستقباله، وفرنسا بدأت سعيها، ودول أخرى ستتبع. الشبهات التي تحوم حول الآثار الجانبية لـلإنجليزي «أسترازينيكا» جعلت نصف الفرنسيين يتقاعسون عن الذهاب إلى مواعيد التلقيح، وثلث اللبنانيين. في المقابل «فايزر» لن يتمكن من تعويض فجوة سيتركها لقاح «أسترازينيكا»، الذي تسبب في حرب ضروس بين بريطانيا والاتحاد، وقد يترك مكانه لـ«سبوتنيك» بعد حصول هذا الأخير، على نفح سحري من مجلة «لانست» الطبية المرموقة حين قدمت فيه شهادة رفيعة.
«ماراثون» الوصول إلى اللقاحات يخلط الأوراق. الجميع يتحدث عن «سباق محموم مع عقارب الساعة»، لإيقاف العدوى، قبل انتشار متحورات جديدة، وإعادة إطلاق الاقتصاد. من يشفى أسرع، يستعيد الأنفاس، ويكسب الرهان والمال. لقاحات أخرى ستبصر النور حتماً، لكن إلى حينه، ثمة 3 لقاحات أساسية غربية، ولقاحان متهمان بنقص الشفافية، وبأنهما نتاج ديكتاتوري عسكري، ومع ذلك من الصعب التخلي عنهما في ظل الشح، ما يعطي الصين وروسيا فرصة اللعب على رقعة شطرنج واسعة، وتحريك حجارتهما بيسر.
الظريف أن الهند أيضاً، ومن دون أن تخترع أو تستثمر في الأبحاث، تمكنت من شراء حقوق تصنيع «أسترازينيكا»، وبات لها أضخم مصنع لقاحات على الإطلاق، ينتج 5 آلاف جرعة في الدقيقة، ودخلت الحرب من باب التوزيع المجاني لاستمالة جيرانها الأقربين، من بنغلاديش إلى نيبال وأفغانستان. لكن الأمر أكثر تعقيداً مما نظن، فليس ثمة لقاح واحد يصنع، من دون أن يحتاج أغطية بلاستيكية من قارة، وقوارير خاصة من قارة أخرى، وتركيبة كيميائية من مكان ثالث. هكذا أصبح العالم متداخلاً، وازداد تعقيداً.
كان يكفي أن تقرر أميركا إيقاف توريد بعض المواد، لتكبح جماح الهند. المعركة معولمة، ولها أكثر من وجه وسلاح.
لا داعي للحديث عن ملايين الجرعات الصينية التي توزع بنشاط بالغ. فبينما تنشغل أميركا بمرضاها، وتغلق أبوابها على لقاحات تصنع على أرضها، بعد أن استثمرت فيها 100 مليار دولار، وتدخل أوروبا معركة كبرى لتحصين سكانها، تعتبرها الأولى منذ تأسيسها، تسرح الصين في بلاد الله الواسعة، وتنشر لقاحها في 53 دولة، بينها العراق وباكستان والمغرب.
الخاسر الأكبر حتى اللحظة هو أوروبا. ليس فقط لأنها لم تتمكن من تقديم لقاح، بينما كانت فرنسا أم اللقاحات، ولها باع في اختراعها، ولكن أيضاً لأنها لم تتمكن من عقد صفقات، تحفظ لها الأولوية، حتى مع المصانع الموجودة على أرضها. الأوروبيون غاضبون، وهم يرون الجرعات تمر من تحت أنوفهم بالملايين متجهة إلى بريطانيا، التي لها أولوية الحصول على «أسترازينيكا» بحسب الاتفاقات.
وصل الأمر بعد التهديد، إلى حد اتخاذ إجراءات حجز ومنع تسفير. وصف وزير خارجية فرنسا جان إيف لودريان السلوك البريطاني بـ«الاستغلالي». لقحت الأخيرة ما يقارب نصف سكانها بالجرعة الأولى، ولم تحتفظ لهم بالثانية، واضعة المصانع أمام مسؤولية إنقاذ الشعب البريطاني. نوع من «الابتزاز» تنظر إليه أوروبا بعين القلق، وهي تصف نفسها بـ«السذاجة» و«العيش بين النجوم» في عالم من «أكلة لحوم البشر». هكذا يسجل بوريس جونسون نقطة إضافية ناصعة لصالح «بريكست» بالانتصار في التلقيح، فيما الدول الأوروبية عاجزة عن حماية مواطنيها، وبريطانيا تتمنع عن تزويدها، ولو بجرعة. أصبح تصنيع اللقاح وتأمينه، قضية «أمن قومي»، والافتقار إليه يضع الحكومات في حالة «حرج» و«انكسار» أمام شعوبها. أن يكون لك لقاحك فذلك من عدة التفوق التي تمنحك السلطة العلمية، والقوة.
الحاجة الملحة تمتص الاتهامات الموجهة للقاحين الصيني والروسي. ليست مصادفة أن يطلق بوتين اسم «سبوتنيك» على لقاحه الوطني ويلحقه بإشارة النصر. فذاك هو اسم الصاروخ أو أول قمر صناعي في العالم أطلقه الاتحاد السوفياتي، أثناء الحرب الباردة عام 1957. أرعبت به الأميركيين، وكان بداية لحرب غزو الفضاء، التي أصبحت، بعد ذلك، كل محطة منها، موضع ترقب وتسجيل اكتساحات.
هذه المرة يعود بوتين بلقاح يوازي فعل القمر الصناعي الأول في التأثير الذي سيتركه. يكفي أن تستمع إلى نبرته، إلى كلماته، وعنفوان الحديث عن اللقاح «سبوتنيك»، مع أن روسيا لا تزال تحتاج كثيراً لتغطية مواطنيها وحمايتهم. لا تمر عنجهية روسيا من دون أن تستفز مناوئيها.
لم يتردد لودريان في وصف اللقاح الروسي بأنه تحول إلى «أداة لبروباغندا» في «دبلوماسية عدوانية» لا تروق لمن كانوا يظنون أن روسيا خمد وهجها إلى الأبد.
ما يحلو لأوروبا أن تسميه «دبلوماسية اللقاحات» بعد أن عانت كثيراً من «دبلوماسية الكمامات»، هو مجرد بداية. في أي لحظة قد ينقلب السحر على صاحبه. فكل اللقاحات لا تزال قيد التجريب، ونحن بكامل إرادتنا، خاضعون كفئران تجارب وديعة، لتراكيب جديدة في تقنياتها، منها ما هو آتٍ من القرود والشمبانزي. ومع ذلك لا خيار لنا، غير التعامل مع ما يتوفر.
إذا وضعنا النكايات البغيضة جانباً، فأي دولة، بحاجة لتجريب كل ما يعرض عليها، بانتظار أن يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود، لنعرف على الأقل، أيها أكثر فاعلية، وأطول نجاعة، وأقل ضرراً. وذاك يحتاج صبراً، وتجاريب، وإذعاناً لمختبرات، تفعل ما بوسعها، وضرب صفح عن النكد السياسي الذي لا يورث غير الفشل.