بقلم : سوسن الأبطح
لا مبالغة في القول إن «سريلانكا هي جنة الله على الأرض»، فإلى جمالها الطبيعي الباهر وخضرتها الكثيفة وغاباتها الأسطورية، ثمة شعب يمنح في احترام الطبيعة دروساً لسكان الأرض؛ فهم لا يقطعون شجرة إلا لضرورة قصوى، ولا يعتدون على بعوضة. وفي النظافة، رغم الفقر والحاجة، هم أمثولة تُحتذى. يفضّل السريلانكي أن يقلّك بباص صغير إلى الفندق الفخم الذي شيّده لاستقبال السياح، على أن يشقّ طريقاً عريضة تتسع للحافلات المتوحشة، ويرتكب مجزرة في الأشجار. رغم الفقر والعوز لا ترى حول الأكواخ السكنية المتواضعة الممتدة على طول مئات الكيلومترات، قاذورة أو سلّة نفايات مفتوحة أو فوضى ممجوجة، هذا فضلاً عن الدماثة والقناعة المرتبطة بكدح وحب للعمل.
البلد الصغير مشكلاته لا تزال كثيرة، والتحديات جسام، بدليل وقوع أكبر تفجيرات على الإطلاق حدثت خارج المنطقة العربية على يد «داعش» في العاصمة كولومبو، وفي كنائس وفنادق فخمة، مما يعني أن الخرق الأمني كبير وخطير. لكن سريلانكا بعد ثلاثين سنة من الحروب والمجازر التي انتهت عام 2009 حققت معجزة بالفعل. أنجزت تلك البلاد التي لا نقدّرها حق قدرها، في عشر سنوات فقط، ما عجز عنه لبنان ودول كثيرة أخرى، في ربع قرن من السلم. بمقدورك في سريلانكا أن تستخدم الإنترنت السريع دون أن ينقطع ويتتعتع في مجاهل الغابات كما في أعالي الجبال. ولا تغيب الكهرباء عن كوخ أو قصر ولو لثانية واحدة؛ فهي موزعة بالقسطاس على العشرين مليون نسمة، بينما لا يزال اللبنانيون يستعينون بالمولدات البدائية ويسددون عجزاً بالمليارات سنوياً، ولم يتمكنوا من تأمين التيار لأربعة ملايين شخص. البنى التحتية في سريلانكا مذهلة؛ لا حفرة تزعجك على الطرقات، ولا نفايات مكدسة أو متناثرة، ولا مجارير تفيض على الأحياء السكنية، ولهم من الترتيب والتنظيم، رغم رقة حالهم، ما يجعلهم مُشتهى المتألمين أمثالنا. استدانوا وأصلحوا، ووعدوا شعبهم ووفوا، وتمكنوا من رفع نسبة النمو إلى ستة في المائة. وبعد أن كانت العاملات المنزليات سريلانكيات في المنطقة العربية، صِرْن يفضلن البقاء في بلادهن، بعد أن فتحن مشاريعهن الاستثمارية، الصغيرة الواعدة.
باب الأمل مفتوح على مصراعيه في سريلانكا، والمسلمون قبل غيرهم يرون الطريق مشرعةً أمامهم للخروج من النفق المظلم. وهم عانوا مثل غيرهم وربما أكثر، منذ مطلع الثمانينات، من الصراعات الدينية بين السنهال البوذيين والتاميل الهندوسيين.
وهم يعرفون أن الاقتتال الديني في جنوب شرقي آسيا على نار حامية. هناك ما يشبه التطهير العرقي ضد المسلمين في الهند بسبب السياسات العنصرية المتزايدة، ومجازر تطال الروهينغا في ميانمار. المسلمون السريلانكيون كانوا أول مَن حذر السلطات من تنامي التطرف في بعض أوساطهم، كمن يطلب النجدة. واللافت في تلك المجزرة المقززة التي أودت بحياة ما يقارب 350 شخصاً، أنها ارتُكِبت من قبل جماعة ينتمون لأقلية من المسلمين تشكل 10 في المائة فقط من السكان ضدّ أقلية أخرى من المسيحيين أصغر منهم حجماً بما يقارب النصف، بحجة الانتقام لمجزرة نيوزيلندا التي ارتكبها متطرف ضد مسلمين وهم يصلون في مساجدهم. التفجيرات في كولومبو لم تستهدف الكنائس فقط، وإنما أفخم الفنادق التي تُعتبر رأسمال سريلانكا وعمودها الفقري لاستقبال السياح الذين يؤمّنون المدخول الأكبر للبلاد. بحجة صراع الأديان، يتم الإجهاز على مشاريع دول وأحلام شعوب، وتُغتال طموحات ملايين الفقراء الذين ينتظرون الخلاص.
بدأت هيئات تابعة للفاتيكان تتحدث عن تصاعد وتيرة تعرض مؤمنين مسيحيين وهم يؤدون الصلاة في كنائسهم إلى اعتداءات إرهابية بشكل لافت منذ عام 2012، في دول كثيرة في أفريقيا كما في الفلبين وباكستان ودول أخرى. بلغ عدد الضحايا هذا العام (ولا نزال في الشهر الرابع) 4305 ضحايا، بزيادة ألف قتيل مسيحي عن كل العام الماضي. حين يبدأ أتباع كل دين يحسبون ضحاياهم ويعدّون قتلاهم، نكون قد أصبحنا على شفا حرب دينية كونية. يجهز حاقد على مسلمين في نيوزيلندا، فينبري آخرون من الدين نفسه في أقاصي آسيا لينتقموا لهم. هذه الثأرية الكونية، يصدقها بعض البسطاء، كالذين فجّروا أنفسهم في الكنائس في كولومبو، لكنها تخفي غابة من المصالح والحسابات الكبرى التي تتجاوز ضعاف النفوس ومرضى العصبيات الضيقة.
نعم، ثمة خلافات سياسية عابرة تمر بها سريلانكا، منذ سنوات. مشكلات ستجد طريقها إلى التسوية في بلد بات يمقت الحروب ويخشى الفتنة. لا شيء يدل على أن البلاد تتحضّر لهستيريا جديدة. ثمة وعي بأن بعض المناطق التي كانت أكثر عرضة من غيرها للحرمان، تحتاج إلى عناية خاصة. هناك إدراك أن العودة إلى الاقتتال دمار للجميع، بعد أن أخذت سريلانكا تتنفس الصعداء باقتصاد واعد ونهضة تثير إعجاب العالم. السريلانكيون على استعداد لتضحيات كبرى، بإمكانهم أن يعضوا على جرح الضغائن والثأريات الدينية لإنهاء العوز الذي هجّر نساءهم قبل رجالهم وشتت أسرهم. المواطن هناك يجاهد يومياً، ويدفع ثمناً غالياً طلباً للازدهار الموعود. السريلانكي يربط الحزام، ويرضى طوعاً أن يكون صحنه من لحاء الشجر، وكوبه قشرة جوز الهند، وقبعته التي تقيه الشمس من ورق نباتات الغابة، ودواؤه مما يحصد حول الدار، والورق الذي يكتب عليه مستخرجاً من روث الفيلة. هذا شعب له من القناعة والتناغم الساحر مع الطبيعة، والاكتفاء الذاتي، ما يجعل مناعته عارمة ضد القبح، وقدرته عالية جداً على مكافحة عشاق البشاعة.