توقيت القاهرة المحلي 00:55:32 آخر تحديث
  مصر اليوم -

لماذا طرابلس؟

  مصر اليوم -

لماذا طرابلس

بقلم: سوسن الأبطح

تُحمّل طرابلس فوق طاقتها، وتُرمى في أوكار الدبابير. ليست المرة الأولى التي يراد للمدينة الوادعة أن تدفع أثماناً عن الجميع، وهي تذعن راضية، وهذه مَثْلَبة أبنائها الطيبين. طرابلس لم تهنأ بالسلم كما كل المدن اللبنانية الأخرى بعد توقف الحرب الأهلية المشؤومة. لم تترك لها نعمة أن تتنفس أو أن تعيش هدنة تعيد إليها الأمل، لم يتذكرها أحد يوم كانت عشرات المليارات تتدفق على لبنان، ويتنعّم بها المحظيون. تتالت حروبها، بأسماء وعناوين متباينة، غير أنها كانت دائمة عبثية، مفقرة، ومدمرة.
قبل ثورة 17 أكتوبر (تشرين الأول)، لم تكن المدينة قد استفاقت بعد من كابوس الحروب الطويلة بين جبل محسن وباب التبانة، المنطقتين الصغيرتين، القابعتين في الضاحية الشمالية. ليتبين بعد سقوط مئات الضحايا والمعوقين أن الألفة عميقة بين الطائفتين الجارتين، وأنه متى انفرط عقد التوظيف السياسي لبسطاء الناس، وتحريضهم المقيت بعضهم على بعض، يتعانق الكبار، ويزجون بالمزعج من أزلامهم في سجون مظلمة لا يخرجون منها، ويتركون عامة الناس نهباً للفاقة. أما ذكرى تلك الجولات التي حطت أوزارها عام 2015 بكبسة زرّ، بعد 7 سنوات عجاف، فتترك اليوم سخرية مريرة على وجوه الأهالي، وحسرة على من فقدوهم، وقتلاً اقتصادياً لا يبدو حتى اللحظة أن ثمة قيامة بعده.
نصف المحال التجارية في طرابلس أفلست إثر صراع لا ناقة لها فيه ولا جمل. لا يريد المواطن غير عيش كريم، ولقمة من عرق الجبين. التحريض الطائفي، يا لهول التحريض! يعيد دائماً عقارب الساعة إلى الوراء. وكأنما الزمن لا يتحرك، والتاريخ يبقى واقفاً متجمداً في ثأريته المميتة. عاصمة الشمال هجرت من كل محيطها، بعد أن كانت الملتقى. بات اسم طرابلس يخيف، وكأنها اقتطعت من جسد الوطن، وسخّرت لمن يريد أن يرمي بكيديته على أهلها.
استبشر الناس بثورة 17 أكتوبر خيراً، نزلوا عن بكرة أبيهم. كان يحلو لي أن أتأمل شبان باب التبانة وجبل محسن في «ساحة النور» يحملون جنباً إلى جنب الأعلام اللبنانية، ويغنون للحرية، وموت الطائفية. ذاك كان حلماً جميلاً، عاشه لبنان كله. النكسة ليست مطلب الأهالي. استكمال الثورة بتحطيم ما تبقى من دكاكين المدينة، ومصارفها، وقوت أهلها، بات يُفرض عليها لاغتيال ما تبقى لها من قوة. احتجاجات الناس ضرورة، الضغط في الشارع واجب، التظاهر حق. وهو ما يعلمه المتظاهرون المطالبون بكسرة خبز. لكن الدسّ السياسي لا يزال يلحق بالمدينة كلعنة. من استغل الطيبين يعود ليغرس بأجسادهم أنيابه وهم يصرخون ضد الجوع.
إرسال المرتزقة والزجّ بهم بين المحتجين، وتوريط الأبرياء في التخريب والتدمير، ليس شهامة، بل من دنس السياسة اللبنانية وألاعيبها القذرة. تعود الأطراف المتناحرة لتصفي حساباتها، مستغلة كما كل مرة، عوز البؤساء. تحطيم لمؤسسات عامة، مصالح خاصة، سيارات، بيوت، في زمن ليس بمقدور مواطن إعادة تركيب زجاج نافذة.
نُفخ في حماسة طرابلس عند بدء الاحتجاجات، ولم تغادرها كاميرات التلفزة التي كانت تضخّم عدساتها أعداد المحتجين، كي تؤكد أنها «عروس الثورة». وها هم الطرابلسيون بعد أن توالى تدفق المجموعات من خارج مدينتهم آتية للتكسير والحرق لليلة الثالثة من دون رحمة، يخشون أن يصبحوا «خروف الثورة» وأضحيتها، بعد أن سمّنوا ليذبحوا.
لا براءة لأحد من دم طرابلس. لكن النقمة الكبرى في المدينة على نوابها وسياسييها، الذين انتُخبوا وحُملوا على الأكتاف. لا مبالغة بالقول إن لطرابلس إمكانات ليست لأي مدينة لبنانية أخرى. كان بمقدورها أن تنتشل البلاد من ديونها. أهمل مرفأها مع أنه الأكبر على الحوض الشرقي للمتوسط بقدراته الطبيعية، وخلفياته الهائلة للتخزين. تركت للصدأ مصفاة تكرير البترول، ولم تستثمر. صار معرض رشيد كرامي، تحفة المهندس المعماري البرازيلي أوسكار نيماير الممتدة على مساحة مليوني متر مربع بصالاتها وحدائقها ومسارحها التي لا مثيل لها في لبنان، وربما في المنطقة، فرجة للحسرة. المدينة المملوكية الثانية بعد القاهرة، المتحف الحي النابض بالتاريخ، وصل بهم الاستغلال إلى حد تشويه معالمه بـ«التلييس» ونزع أبواب محاله الخشبية الثرية واستبدال الألومنيوم البشع بها، بحجة الترميم. إذا كانت بيروت تيمم صوب الحداثة، فطرابلس أم الأصالة، بمأكولاتها ومشاربها، وخاناتها، وأبراجها وأسواقها وحماماتها وقلعتها الصليبية الشامخة. منطقة النهر التي تظهرها الصور القديمة فينيسا الشرق ومنازلها الجميلة تسبح في الماء، دفع عليها باهظ الأثمان لإحالتها دمامة لا يمكن تحملها. كل ذلك كانت تنفذه حكومة بعد أخرى. تدفن المشروعات، إما غباء، وإما لأن الصفقات لم تكن تدرّ ربحاً وفيراً، وإما لخلافات بين متقاسمي المليارات، وربما لأن انتشال الناس يعني تحررهم من التمسك بأذيال الزعيم.
أي أسى لم ينزل بطرابلس. مع ذلك رُمي أهلها بالعنف بحجة أنهم فقراء، هذا اسمه تجنٍ وظلم على الظلم. أهل المدينة لهم من السماحة والقدرة على الغفران، ما يجعلهم سلميين إلى حدّ مستفزّ، وطيّعين لاستخدامهم مطية، لمن تسوّل لهم أنفسهم ذلك.
قدر كبير من الوعي يستيقظ في قلوب الشبان الذين يرون ثورتهم تسرق من قطّاع طرق وانتهازيين. عدد كبير منهم ما عاد يتظاهر، خشية من «كورونا» أو تحسباً من أعمال لا تليق بهم. لكن الدعوات بدأت، والاستنهاض يكبر للوقوف سداً منيعاً في وجوه من يستغلون الحجْر الصحي، ليعبثوا بأمن الناس، وليعيدوا وصم المدينة تارة بالإرهاب، وتارة أخرى بالتخلف.
ثمة صفحة تطوى، لكن يخشى أن تكون مكلفة جداً.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

لماذا طرابلس لماذا طرابلس



GMT 23:29 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحو قانون متوازن للأسرة.. بيت الطاعة

GMT 23:27 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحن عشاق «الكراكيب»

GMT 23:25 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

التوت و«البنكنوت»

GMT 20:38 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

الصفقة مع ايران تأجلت... أو صارت مستحيلة

GMT 07:51 2021 السبت ,11 أيلول / سبتمبر

الملالي في أفغانستان: المخاطر والتحديات

إلهام شاهين تتألق بإطلالة فرعونية مستوحاه من فستان الكاهنة "كاروماما"

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 20:45 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

مسلسل جديد يجمع حسن الرداد وإيمي سمير غانم في رمضان 2025
  مصر اليوم - مسلسل جديد يجمع حسن الرداد وإيمي سمير غانم في رمضان 2025

GMT 14:08 2018 السبت ,21 إبريل / نيسان

اختاري كوشات أفراح مبتكرة في موسم صيف 2018

GMT 01:35 2018 الأربعاء ,04 إبريل / نيسان

عبد الله السعيد يفجر المشاكل بين كوبر وأبوريدة

GMT 00:43 2018 الإثنين ,29 كانون الثاني / يناير

تشيلسي الإنجليزي يستقرّ على بديل أنطونيو كونتي

GMT 10:07 2018 السبت ,27 كانون الثاني / يناير

عفو رئاسي من السيسي عن متهمة في قضية شهيرة

GMT 12:49 2018 الإثنين ,22 كانون الثاني / يناير

النني ينعش خزينة الأهلي ب81 ألف جنيه استرليني
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon