بقلم - سوسن الأبطح
في مفاجأة غير متوقعة، جاء الرد على غادة السمّان من مصر، ونشر الصحافي أيمن الحكيم مضمون عشر رسائل، وصوراً لها بخط يدها كانت قد كتبتها الأديبة إلى صديقيها الكاتب أحمد عثمان الذي كان مقيماً في لندن وزوجته نجلاء مدحت عاصم، تبثهما فيها لواعجها، وتسرّ ببعض من أسرار علاقتها مع الملحن بليغ حمدي بعد أن أصابه اليأس من الزواج بوردة الجزائرية التي هام بها بسبب معارضة عائلتها وتزويجها بغيره.
وإن كانت الرسائل هي مما يتبادله الأصدقاء على عجل، ومكتوبة على السجية، فهي مما يفتح الأعين على كثير من التفاصيل المهمة التي لا تزال تغلف حياة أدبائنا، إما لخوفهم من التلصص، أو لحسابات شخصية لا تزال تؤرقهم. ويغتاظ كثيرون لأن غادة السمان تنشر رسائل عشاقها وتدّعي بأنها فقدت رسائلها كما في حالة غسان كنفاني، أو أنها تلقت الرسائل ولم تجب عليها أبدا كما في حالة أنسي الحاج. ويرى أيمن الحكيم، أنه لا يفعل بالإفراج عن رسائل غادة سوى «السير على سنتها، لأن تلك الرسائل تمثل وثائق أدبية لا بد من نشرها مهما كانت خصوصيتها، ما دمت تريد أن تقدم المثل والنموذج في تأسيس ثقافة الاعتراف في العالم العربي على الطريقة العصرية، وليس على طريقة العصور الوسطى».
وبحسب الحكيم، فإن صديق غادة السمان القديم أحمد عثمان هو من سلمه الرسائل، وروى له ما يصعب قراءته فيها وهو أن بليغ حمدي قبل زفافه، وفي حادثة غريبة ترك وردة الجزائرية وذهب إلى بيروت للقاء غادة السمان، وعاد ولم يفصح عن السبب وكل ما قاله إنه ذهب ينتقي بدلة لعرسه، لأن ما هو موجود في مصر لم يكن يعجبه.
ونترك لغادة السمان أن تؤكد صحة الرسائل من عدمها، ومدى مصداقية ما أضيف من روايات إليها، وكلها قصص أصبحت من الماضي. وربما الأمانة تقتضي، أن يصارح الكتاب قراءهم بحقيقة ما يشاع، خاصة أن الكلام عن علاقتها ببليغ حمدي حكي عنها كثيرا، وتكتمت عليها باستمرار. وفي الرسائل المنشورة في جريدة «الدستور» أن فكرة الزواج كانت موجودة وهي كانت قلقة منها، كل ذلك يمر عابراً وكأنما غادة السمان كانت دائمة التحسب والحيطة، من لحظة تخرج فيها الرسائل من دائرتها الضيقة.
ولا غرابة في أن تأتي رسائل غادة السمان من مصر النائمة على كنوز لا من سوريا أو لبنان، وربما يشجع هذا آخرين على كشف ما لديهم. فلا تزال حياة أدبائنا يلفها الغموض، وسيرهم مشوبة بالضباب وما بقي لنا منهم، العناية به متواضعة حد الإيلام، وهو ما يجعل المواقف منهم ملتبسة ومتناقضة أحياناً.
سائق التاكسي، كما حاجب الفندق الذي كنت أقطن فيه قرب ميدان التحرير في القاهرة قبل أيام، أصرا على أن يرويا لي أن هذا المبنى الأنيق الشاهق الذي أقطن فيه، ويستقبل السياح الراغبين في اكتشاف مصر، أقيم على أنقاض منزل محررة النساء، وشهيرة العرب، هدى شعراوي. ليس هذا شأن ثقافي في مصر، على ما يبدو، فمن يحزنون، هم أناس عاديون، مواطنون بسطاء معنيون، بما يمكن أن يكون قضية النخبة وحدها في بلد مثل لبنان. وهو ما يسرّ القلب ويزيد الألم.
تضييع الأثر لكتاب وشخصيات لعبوا أدواراً محورية، يزيد من اللغط. فالآراء ليست واحدة من هدى شعراوي، فمنهم من يراها رمزاً للجرأة، وهناك من لا يزال يعيّرها بالسفور والتفرنج إلى اليوم، وثمة من يتساءل لماذا حجب اسمها مناضلات أخريات، ويعزو سبب ذيوع صيتها لفدادينها وطبقتها الإقطاعية، وحياة القصور التي عاشتها، والأموال التي دعمت مسيرتها.
وغادة السمان سيزداد الأخذ والرد حول سيرتها بدل أن يخمد، بسبب الأسرار التي فضلت التكتم عليها حتى اللحظة، وهي لا تزيد بكلامها المبطن الأمور إلا غموضاً، وبنشر رسائل عشاقها تفاصيل حياتها إلا ظلالاً.
وحزنت وأنا أزور مدينة أسوان، حينما اهتديت إلى مركز ثقافي يحمل اسم عباس محمود العقاد، وفيه تحفظ مقتنياته حين فوجئت، ببائعة تحتل مدخل المبنى، وتفترش بضاعتها البسيطة من الحلي والأساور والمشغولات اليدوية لتكسب رزقها أمام تمثال نصفي للكاتب العملاق. وكأنما لم يبق في أسوان إلا هذا المركز الثقافي لبيع الإكسسوارات. واختلطت علي المشاعر بين الفرح الغامر والأسف الشديد، وأنا أتفرج على مقتنياته الشخصية الأكثر رمزية، مثل البيريه والكرافاتات وجاكيتته يتآكلها الغبار، من دون واجهة زجاجية أو خزانة تقيها من التآكل والتفتت. والحال نفسها تنسحب على الكتب وحاجياته الحميمة الأخرى. والعقاد شخصية جدلية إضافية، وحياته متمفصلة مع أحلامنا في «التحرر» و«النهضة» و«النضال» كما أن كتاباته هي جزء من وجدان الأمة جمعاء.
وما يصح في مصر ينسحب على لبنان، الذي لولا جهود عائلات الأدباء الفردية لما بقي لمارون عبود أو ميخائيل نعيمة أو أمين الريحاني وغيرهم من الكبار أثر يذكر. وربما أنقذت جبران خليل جبران لجنته الوطنية، ومع ذلك كان يمكن لبلدته بشري التي فيها مقتنياته ومتحفه ولوحاته، بقليل من الجهود أن تتحول إلى مزار يسعى للمجيء إليه أهل الأرض من كل حدب.
وبالعودة إلى غادة السمان التي تدرك جيداً، أن المؤسسات العربية الرسمية مشغولة بأي شيء إلا قضية الأدباء وإرثهم الثقافي، فمن حق قرائها عليها، وأجيال الفتيات اللواتي اعتبرنها نموذجاً وقدوة ومنارة، أن تصدقهن القول وتفرج عن سيرة لها، فيها من الشفافية والمصارحة الحرّة ما يجعلها دائماً تلك المرأة الجريئة حد الإبهار.
نقلا عن الشرق الاوسط اللندنية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع