توقيت القاهرة المحلي 14:21:48 آخر تحديث
  مصر اليوم -

صرخة الأمم المتحدة في وادٍ

  مصر اليوم -

صرخة الأمم المتحدة في وادٍ

بقلم : سوسن الأبطح

من حسن حظ أمين نخلة أنه وُلد قبل غزو أكياس النايلون والعبوات البلاستيكية، والانبعاثات القاتلة. من الصعب تخيل هذا الأديب البديع يكتب رائعته «المفكرة الريفية» التي اعتُبرت مفصلاً في النثر العربي الحديث في بيئة تتطاير فيها السموم وتتقاذف الرياح الأوراق ومخلفات البشر المقززة.

كتب الرجل عن التوازن البيئي ولم يكن قد سمع به أو عرف عنه. تحدث عن دروب الريف التي «تنهض من وهدة إلى ربوة، وتدور خلف شجرة، وتعرّج على عين ماء وتتوقف في ظل حائط، وتنطرح على باب بيت – تمشي على هواها. هي على عكس دروب المدينة التي تمشي في خط مستقيم». وكانت الكسارات أيام نخلة، صاحب الفتوحات الأسلوبية، لم تأكل سحر الجبال بعد، والمقالع لم تنشر الصخر وتبتلع الشجر. قارَنَ بين دروب الريف الملتوية المستظلة بالخضرة، وما يسير عليه أهل المدينة من سواد فاحم. ولو بقي الرجل بيننا لَعَرف أن هذا القاتم زحف إلى كل زاوية ولم يبق للبشر سوى الحسرة. وتقرير الأمم المتحدة الكارثي حول البيئة الذي أُعلن عنه مؤخراً، رغم أهميته، يكاد يقول عن العالم بالأرقام ما نعرفه ونلمسه في لبنان حين نطل على البحر أو نقترب من نهر أو حتى نسير في الطريق. وبالتالي فهو لا يفعل سوى أن يؤكد المؤكد بعلمية هذه المرة، ودون أن يترك مجالاً لشك أو تردد.

دول العالم شاركت في الدراسة، ومئات الخبراء قدموا آلاف الأبحاث، ليصلوا إلى نتيجة واحدة هي أن الجشع والتغول السلوكي البشري يقضي بوتيرة سريعة، وغير مسبوقة، على الكوكب وكائناته، وأن مليون نوع نباتي وحيواني ذاهبة إلى الانقراض. وإذا كان من الصعب تعداد الانحرافات البشرية التي تقود إلى هذه التهلكة ومنها المصانع والمحارق وقطع الأشجار وتلويث التربة واستخدام الكيميائيات بلا رحمة، فإن البلاستيكيات وحدها التي أصبحت إدماناً هائلاً في صناعة الأكواب كما السيارات والصواريخ وحتى الجوالات، يمكنها أن تطمر الأرض وتشكل كارثة تقضي على ثروة البحر.

كان الخبر أشبه بنكتة حين كشفت مجلة «ساينس ريبورتس» العام الماضي، عما سمّته قارة ثامنة تعادل مساحتها ثلاثة أضعاف فرنسا، من البلاستيك، تعوم في المياه الإقليمية للمحيط الهادي، وكذلك الهندي والأطلسي. لكن الأسوأ هي تلك الأكوام من النفايات البلاستيكية بين هاواي وكاليفورنيا. الصور الآتية من هناك، هي من البشاعة بحيث إنها ترعب بالفعل وتبعث على الهلع. بمقدور البلاستيك لكثرة ما نستخدمه ونستشرس في جعله وسيلتنا إلى كل شيء، أن يطمرنا. ثلاثة ملايين طن من البلاستيك، ينتج الإنسان كل سنة، لا يعاد تدوير إلا القليل منها. كمية كفيلة بأن تحيل التربة إلى سمّ والبحار إلى مقابر لكائناتها، التي إما أن تموت وهي تبتلعها، وإما تقضي بسببها حين تسد عنها أسباب الطعام. ثمة أسئلة كثيرة عن سبب إصرار شركات المشروبات الغازية على الاستمرار في استخدام العبوات البلاستيكية والمعدنية، ورفضها العودة إلى الزجاج الذي كان بيئياً وصحياً. ثلاثة ملايين عبوة بلاستيكية، هو ما تخلّفه شركة واحدة فقط، هي الأشهر والأكبر. ومن المهازل أن هذه الشركة نفسها التي باتت مدانة وملاحَقة من الجمعيات البيئية تتبرع بمبالغ خيالية للأبحاث المتعلقة بالصحة والتوازن البيئي.

وما بين النفاق الممجوج، واللامبالاة المستفزة، من كبار المصنعين، العودة إلى الوراء ليست متاحة. الوعي لا يزال قاصراً، الناشطون البيئيون أشبه بمخلوقات هامشية تسعى إلى ما لا يفهمه الآخرون. تحتاج كل عبوة بلاستيكية نرمي بها في مهملاتنا إلى 500 سنة كي تبدأ بالتحلل، لأن البكتيريا لا تؤثر في هذا النوع من المصنوعات الشديدة المناعة. واحتسبْ كم من العبوات ترمي في الأسبوع، وعمِّم على من حولك.

مئات ملايين الأطنان تكدست وباتت تشاركنا الحياة ببشاعتها وانبعاثاتها تحت الشمس الحارة. لو تخيلت فقط عدد حفاضات الأطفال التي رُميت منذ عُرف هذا الاختراع، وعلمت أنها 187 مليار حفاضة متسخة في العام الواحد، لأدركت مدى خطورة ما نتحدث عنه. بدأت إيطاليا بتدوير جزء من هذه المرميات الصعبة التدوير، في مصانع خاصة، منها ما يتحول إلى تربة صناعية للزراعة، وغيرها يعاد صياغته في شكل أغطية للعبوات. لكن هل حقاً ثمة طريقة آمنة لإعادة استخدام هذا النوع من القطن والنايلون؟

إنقاذ الطبيعة المنتهكة يحتاج، إضافة إلى العبقريات العلمية، إلى عدم الوقوع في أفخاخ جديدة أشد خطراً، ففهم الأفراد أن الاسترسال في الاستهلاك لمجرد أننا نمتلك الثمن هو سلوك يفتقر إلى أدنى المعايير الأخلاقية وأن ما يرميه مستهتر على شاطئ في إيطاليا قد يقتل سلحفاة في البحر الليبي، وأن ما يسكبه لبنان من مجارير وقمامة في البحر يجب أن يعاقَب عليه من كل دول البحر المتوسط.

وكما اكتشف أهل البسيطة في سبعينات القرن الماضي أن عليهم الاتفاق حول قانون للبحار، وأنشأوا لهذا الغرض محكمة تحل النزاعات حول الحدود البحرية وثرواتها، لا بد سيأتي يوم يُنظر فيه إلى أن المياه الإقليمية ليست مشاعاً لأصحابها يقذفون إليها بنفاياتهم التي تجرفها حركة المياه في كل اتجاه. وأن الهواء ملكية إنسانية عامة يعاقَب دولياً من يعتدي على صفائها.

تبدو صرخة الأمم المتحدة كأنها لم تُسمع. كثيرة الدول التي لا تريد أن تهتم بالأرقام، والحكومات التي تؤجّل النظر في الحلول. فارتكاب المعاصي البيئية أسهل كثيراً من التوبة عنها. الحلول الصحية مكلفة والأزمات المالية في العالم متلاحقة. وآخر الهموم أن يشرب فقراء القوم المياه الملوثة أو يأكلوا الخضراوات المسرطنة أو يتنشقوا هواء يورّثهم الموت. الصورة قاتمة، غير أن الأمل قائم. بمقدور السياسات الضيقة والنفوس المريضة أن تقسم الأرض وتغلق الحدود وتسمي الدول والشعوب وترفع الحواجز، وتنتهك ما تشاء، إلا أن هؤلاء أنفسهم سيدركون قريباً جداً، أن ما يفرقه الإنسان بطمعه وجشعه، يجمعه الكوكب بمصير واحد

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

صرخة الأمم المتحدة في وادٍ صرخة الأمم المتحدة في وادٍ



GMT 08:51 2021 الأحد ,07 شباط / فبراير

أين نحن من المفاوضات الدولية مع إيران؟

GMT 08:50 2021 الأحد ,07 شباط / فبراير

المعرفة التي قتلت لقمان سليم

GMT 08:46 2021 الأحد ,07 شباط / فبراير

لقمان سليم وتوحش النظام الإيراني

GMT 08:44 2021 الأحد ,07 شباط / فبراير

4 مليارات ثمن 12 بيضة

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 22:50 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

بشرى تكشف عن أمنيتها للعام الجديد
  مصر اليوم - بشرى تكشف عن أمنيتها للعام الجديد

GMT 10:34 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

الوجهات السياحية الأكثر زيارة خلال عام 2024

GMT 10:38 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

إطلالات أنيقة وراقية لكيت ميدلتون باللون الأحمر

GMT 10:52 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

بيلا حديد في إطلالات عصرية وجذّابة بالدينم

GMT 09:38 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

نصائح سهلة للتخلص من الدهون خلال فصل الشتاء

GMT 21:45 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

فجر السعيد تفتح النار على نهى نبيل بعد لقائها مع نوال

GMT 08:46 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

مبابي يكشف سبب منعه من الاستمرار مع سان جيرمان

GMT 20:43 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

الأمير هاري يتحدث عن وراثة أبنائه جين الشعر الأحمر

GMT 20:11 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

تكريم توم كروز بأعلى وسام مدني من البحرية الأميركية

GMT 09:56 2021 الجمعة ,01 كانون الثاني / يناير

أعد النظر في طريقة تعاطيك مع الزملاء في العمل

GMT 12:18 2016 الإثنين ,12 كانون الأول / ديسمبر

الروح والحب والإخلاص " ربنا يسعدكم "

GMT 23:59 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

اتفاق مبدئي على إعادة تشكيل السلطة التنفيذية في ليبيا

GMT 18:11 2024 الخميس ,05 أيلول / سبتمبر

3 تحديات تنتظر الزمالك قبل غلق الميركاتو الصيفي

GMT 07:33 2019 الثلاثاء ,12 تشرين الثاني / نوفمبر

"سيسيه يؤكد رفضت عروضا من أجل البقاء مع "الاتحاد

GMT 05:59 2024 الأحد ,14 تموز / يوليو

محمد النني يقترب من الدوري السعودي
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon