بقلم - سوسن الأبطح
أدرجت اليونيسكو «الخط العربي» على قائمة تراثها غير المادي، وهو يتعرض لأقسى أنواع الإهمال والاضطهاد من بنيه، بينما يمارس غوايته الجمالية في أوروبا ودول إسلامية كثيرة. لم يسبق أن كانت خطوط التلامذة على هذا النحو من الرداءة، ولا اللامبالاة الرسمية على هذا القدر من الإصرار. غير مفهوم، لماذا أُلغيت حصة الخط، التي كانت أصلاً، غير جدية، بدل تعزيزها، وتحويلها إلى متعة فنية للأطفال؟ في أي حال، لا تاريخ الخط، ولا أنواعه، ولا إمكاناته الإبداعية، وضُعت يوماً على قائمة المناهج التعليمية. فهو كما عناصر هويتنا الأخرى، متروك لعفوية فوضوية، لا تنتج غير العقم. والنتيجة أن عدد الخطاطين يتدنى، بسبب غياب فرص العمل، وشح الأجور إلى حد مخجل. ويُنظر إلى الخطاط على أنه هاوٍ أو في أحسن الأحوال يتسلى، ونفّوت على أنفسنا نعمة الإفادة من كنزٍ وُهبنا إياه، بليونته وطواعيته في التشكيل، وتمايزه الخلّاق.
مما يبعث على الأمل أن تتضافر جهود 16 دولة عربية، لتقديم وتدعيم ملف، عُمل عليه طوال عامين، بمبادرة وتنسيق من المملكة العربية السعودية، ليجد خواتيمه السعيدة في أعلى هيئة أممية ثقافية هي «اليونيسكو». فالموافقة على الملف، تُلزم الدول إعداد تقارير دورية، حول جهدها، لحماية هذا التراث، وهو ما يفترض أن يدفع بالجميع إلى العمل، وتقديم أفضل النتائج، وهذا ما ننتظره.
فأسهل النجاحات وأيسرها، تكون في الساحات الخالية، حيث كل مبادرة مفيدة، وقابلة للامتصاص. هناك دول عربية لها مؤسسات تُعنى بالخط، وتقيم مسابقات، وتكرّم خطاطين، وتنظم معارض، لكن ما نحتاج إليه أن نُنزل الكاليغرافيا عن عرش نخبويتها القاتلة، أن نجعل الحروف واللعب بها وتشكيلها ملكاً للأطفال والناشئين والراغبين جميعاً، أن نعيد الإحساس بالانتماء إلى الوجدان، ووصل ما نقطع مع التاريخ، ومصالحته مع الذائقة العصرية بمرحها وطرافتها.
خرج العرب من الأندلس وبقيت حروفهم المحفورة في الكنائس والقصور وعلى الأعمدة، وفي وسط نيودلهي الخط العربي حاضر في المساجد والساحات وعلى اللافتات التجارية في الأحياء الشعبية، شاهداً على أن العرب مرّوا من هنا. كذلك هو الحال في كازاخستان والصين على واجهات المطاعم وزخارف المتاحف وشواهد القبور.
حتى في اليابان، ثمة خطاطون هناك، مثل فؤاد كوئيتشي هوندا، يحتفون بالخط العربي وإمكاناته المبهرة. فقد أعطى هذا الفنان روحه للعربية وفنونها، وصار له تلامذة وعشاق ينقل لهم شغفه. ولا يزال الصينيون المسلمون مثل ما يي بينغ، ويُعرف باسم الإمام يحيى، يجتهد ويبدع هو الآخر. ولا داعي للحديث عن الفورة الأوروبية في كلٍّ من ألمانيا وإيطاليا وفرنسا، واستلهام الحروف العربية جمالياً.
بالعودة إلى النموذج الصيني، ليس صدفة أن كل إمبراطور مرّ على البلاد، كان يباهي ليس فقط بمعرفته بأصول الخط الصيني، وإنما ببراعته كفنان يجيد الابتكار، ووضع لمساته الخاصة على حروفه. من بين الحديثين شو إن لاي، أول رئيس وزراء للصين الشعبية، وأكثر المتحمسين للقضايا العربية، وأول من رفع العلم الفلسطيني في الصين.
قد تعجب أن ماو تسي تونغ بسبب تفانيه، وُضع على قائمة أعظم عشرة فنانين في فن الخط، في القرن العشرين. فقد بدأ تعلُّم التخطيط وهو في الثامنة من عمره، ولم يتوقف عن متابعة التحدي، حتى وُصفت أعماله، بأنها صهرت أساليب كل سابقيه في بوتقة واحدة، وقيل عنها إنها «رشيقة مثل تنين طائر. فيها أناقة مع جرأة وجمال مع نشاط».
لا نطلب من قادتنا أن يصبحوا نوابغ في التخطيط، فتلك مبالغة قصوى، لكن لا يغيب عن البال أن ثمة مَن دافعوا عن الحرف العربي، وأنه تعرض لاختبارات قاسية متتالية. لحقت اللعنة بالخطاطين الأتراك الذين كانوا يملأون الساحات في إسطنبول، إبان الخلافة العثمانية، فإذا بقرار أتاتورك استبدال الحرف اللاتيني بالعربي عند إنهاء الخلافة يحيلهم إلى مخالفين، ويجبرهم على الإقفال. ومع ذلك بقوا يدافعون عن أعمالهم، ويوارون كتاباتهم، ويحاولون النجاة بها. وهي مرحلة عسيرة، أحد معالمها الخطَّاط حامد آيتاش الآمدي، الذي لعب دور الجسر، خلال تلك الفترة، رغم التهديدات.
هناك من يريد تقديس الخط العربي، وإحاطته بهالة تحنيطية، وذاك لا يخدم انخراط الكتابة في ميادين العيش اليومي. وثمة من يعاني من الجهل التام بأن حرفه هو صلته الحضارية، وحبل السُّرة، ليس مع العالم الإسلامي فحسب، وإنما مع العالم أيضاً، الذي وجد قديماً في الزخرف وفنون الخط سحراً يستحق استيحاءه في المنحوتات واللوحات، وحديثاً في الأزياء والآنية والديكورات المنزلية. مستشرقون وأدباء عنوا بالعربية وخطها، وصاحب «الديوان الشرقي» غوته كان قد تبحّر في ثقافتنا يوم أطلق مقولته إنه لم يعرف «لغة فيها انسجام، بين الكلمة والخط والروح، مثل اللغة العربية». وهذا يذكّر برأي الصبية اللبنانية الخلّاقة نادين شاهين التي بعد أن درست التصميم الفني في الجامعة الأميركية في بيروت وتصميم الخطوط الطباعية في جامعة «ريدنغ» في بريطانيا، استفادت من خبراتها شركة ألمانية، وأطلقت بفضلها، من عام 2013 الكثير من الخطوط الطباعية العربية، ولم يكن بمقدورنا قبلها بعامين استخدام أكثر من خطين اثنين، لا ثالث لهما. وترى نادين، كما غوته، تلك التناغمية في التعامل مع اللغة، معتبرة أن الخط الذي نختاره، في طباعة إعلان أو رسالة، أو كتابة لافتة يوازي اختيارنا نبرة الصوت التي نستخدمها حين نتوجه بالحديث لشخص ما، فنُحسن، أو نُسيء. لذلك علينا في كل مرة أن نختار الخط الذي يتلاءم والمناسبة، كي ننجح في إيصال الرسالة.
بين الخط الطباعي، والفني، والتعبير الديني، والحاجات التجارية... الأبواب تُفتح، والأفكار تتدفق، وعلينا أن نلحق بالركب.