بقلم - سوسن الأبطح
فاتنتان، قرصانان، ممثل، وآخرون قد يظهرهم التحقيق، هم أبطال القضية التي اجتمعت لها كل عناصر الإثارة، وقد تكون الأكثر تشويقاً في تاريخ لبنان الحديث. فكلما حلّت عقدة في قصة «عيتاني - الحاج»، بدا أنها تغطي غابات من الخفايا. حلقات تلفزيونية، تحليلات سياسية، تسريبات أمنية. خيوط الجريمة مفخخة، وكل من يمسك بطرف منها تصيبه بلوثتها. من المتهمين المدانين إلى الصحافيين المساكين إلى المحققين، يكتوون جميعهم بنار الحمم التي ترمى في وجوههم. عبثاً يحاول المتابع أن يميز بين البريء والمتورط، حتى ليشعر أنه كلما مال لبراءة أحدهم سيقصف في اليوم الذي يليه بخبر يباغته.
وما كان ينقص جريمة إلكترونية مركبة، بهذا الحجم، أوقف بسببها الممثل المعروف زياد عيتاني، والضابطة في قوى الأمن الداخلي سوزان الحاج، سوى أن تأتي قبيل انتخابات جاءت بعد تسع سنوات، وأن تحقق بها أجهزة أمنية محسوبة على سياسيين، ويخرج من يتهم القضاء بالانحياز، ثم يجيش الناس لينقسموا بين أصدقاء لهذا ومؤيدين لذاك.
ولمن لم يسمع بالقضية فإن زياد عيتاني سجن بتهمة التعامل وتبادل رسائل مع الإسرائيلية كوليت والتخطيط بمعونتها لاغتيال شخصيات بارزة. يتبين أن كوليت ليست سوى قرصان لبناني يدعى إيلي جندته المقدّم سوزان الحاج، التي عزلت من منصب رئيسة «مكتب مكافحة جرائم المعلوماتية وحماية الملكية الفكرية» للإيقاع بعيتاني لأسباب ثأرية. تزداد الحكاية تعقيداً حين نعرف أن العيتاني اعترف وتبين العكس، والأرجح إخلاء سبيله، والحاج أنكرت، لكن التهم تتلبسها، وستمثل أمام القضاء. المشهد جلي؟ ليس تماماً! التزوير الإلكتروني يحتاج من يفك شفرته، وكل قرصان ثمة من يستطيع أن يقرصنه. ويمكن تصور مزيد من الامتدادات لحكاية يخرج كل يوم من يضيف إليها جديداً. ثمة مواطنون آخرون يتهمون القرصان بأنه نفسه أوقع بهم، أحدهم بسبب خزان مياه وخلافات جيرة متوترة. والقرصان والحاج معاً، متورطان باختراق مواقع رسمية، ليمتد الأمر حد تحضير اتهام بالعمالة لصحافي كان أبرز من كتب عن قضية العيتاني. كل هذا لم يمنع الدعوة إلى اعتصام من أصدقاء الحاج شداً لعضدها. ولا شيء سيمنع المزيد من التحميس لحمايتها. فثمة من لا يريد أن يصدق شيئاً، أو يفضل أن يثق بما يقوله له زعيمه. وهناك من سيتساءل طويلاً حتى بعد تبرئة العيتاني، عن نياته وميوله، وحقيقة ما فعله. ولماذا تجاوب مثلاً مع المدعوة «كوليت»؟ والرجل بحاجة إلى براءة ناصعة كالثلج، لرد الاعتبار، والعودة إلى حياة سوية. فكل رصيده جمهوره، ومهنته ممثل مسرحي... يأتيه المئات لمتابعة أعماله على الخشبة، قائمة على سمعة كالمسك، ومحبة، وثقة، لا يخالطهما شبهة.
في لبنان يجد كلٌ، من يدافع عنه بحرارة، ومن يقذفه بأقذع التهم في وقت واحد. فليس من بريء خالص، ولا متهم أكيد. وحين يقول وزير الداخلية نهاد المشنوق إن «القضية يشوبها التسييس»، فليس للمواطن الصغير إلا أن يصدّقه.
ضع جانباً اللغط الانتخابي الذي يجعل العدالة ضرباً من الأمل صعب المنال في عيون المواطنين، فإن التحقيق في الجرائم الإلكترونية، يبقى من أشقّ المهمات. ليس تبريراً للدولة اللبنانية فوضاها. احتاجت أميركا سنوات طوالاً لتقبض على قراصنة اختلسوا الملايين. أحد أشهر الهاكرز كيفن ميتنك، بدأ اختراقه لبنوك وشركات كبرى وممارسة عمليات احتيال، عام 79، وكان حينها لا يزال في السادسة عشرة ولم يقبض عليه، رغم المتابعة والمطاردة، إلا بعد ست وعشرين سنة، والأمثلة كثيرة. وربما آخر ما فكر فيه المحقق أن يكون حاميها حراميها، كما هي حال الضابطة المسؤولة عن جرائم المعلوماتية وأحد معاونيها. مع أن «هيتشكوك» علمنا دائماً أن الجريمة يرتكبها أولئك الذين نادراً ما نشك فيهم، إلا أن الأمر يبقى عصياً، والأسئلة تتدفق. هل كانت الحاج تقوم بهذه الأفعال من تلقاء ذاتها، أم أنها كانت تتواطأ مع جهات سياسية؟ ولماذا قرر القرصان في هذا الوقت تحديداً الوشاية بها؟ وهل قدم ضدها تسجيلات بصوتها؟ أم قرصن نبرتها؟ وهل هذا ممكن؟ ما هي التقنيات المتوفرة؟ وهل لدى الدولة اللبنانية متمرسون، بما يكفي، لكشف اللعب على الألاعيب، وفضح قرصنة المقرصنين؟ يقال إن أحد أشهر هاكرز زمننا، وهو الجزائري حمزة الدلاج الذي اخترق 217 موقعاً لبنوك حول العالم، وعطل ثمانية آلاف أخرى لشركات، بينها عملاقة، بعد القبض عليه في هونغ كونغ إثر طول تعقب، حكم عليه في أميركا بـ15 سنة سجناً، عرضت إسرائيل التوسط لإخراجه شرط أن يحصّن شبكاتها. وبعض المجرمين المعلوماتيين بعد انتهاء محكومياتهم، يتحولون إلى مسؤولين كبار في شركات أمنية، أو أجهزة للجاسوسية. يبقى أن لبنان بلد صغير، والمتورطون، أكانوا أبرياء أم مجرمين، ستلاحقهم تهمهم كلعنة تقض مضاجعهم. تحييد القضاء، وإخراجه من أحابيل السياسة، ولوثة المحسوبيات المؤقتة، والمصالح الضيقة، وحدها تضمن للمواطن براءة أكيدة حين يقع في شباك المجرمين. غير ذلك، الأمور تسير على عكس ما هي عليه في أي مكان آخر. وسيبقى في بلد الأرز: «كل متهم مدان حتى بعد أن تثبت براءته»، وليس هناك من يرحم.
نقلا عن الشرق الاوسط اللندنية