توقيت القاهرة المحلي 21:57:03 آخر تحديث
  مصر اليوم -

شيراك... الوجه والقناع

  مصر اليوم -

شيراك الوجه والقناع

بقلم: سوسن الأبطح

يوم افتتح الرئيس الفرنسي جاك شيراك متحف «كاي برانلي» عام 2006، كان حريصاً على أن تحمل اللوحة التذكارية التي يزيح الستارة عنها ما يوضح أن المتحف يأتي لـ«يعيد العدالة» إلى الأمم الأفريقية والآسيوية وهنود أميركا، وغيرهم من الشعوب. كان الرجل يؤمن أن الدراسات الإثنولوجية، التي ركزت على العرق واللون، وربطتهما بالذكاء والعطاء والتقدم والتخلف، ظلمت شعوباً كثيرة، وهي تنتصر للحضارة الأوروبية على حساب بقية الأمم. أراد الرئيس أن يكون هذا المتحف مشروع عمره الذي يصحح النظرة، ويغير الذهنيات العنصرية. وهو ما جعل أحد خبراء الفن الأميركيين يعلق يومها بأن المتحف بروحه ومضمونه «صفعة للاستعمار والإمبريالية».
على الأرجح أن تعليقاً كهذا أفرح قلب شيراك الذي قال يوم الافتتاح «ليس من حضارة أفضل من أخرى ولا شعب أرقى من آخر». وهو كان يتحدث في تلك اللحظة إلى كل أولئك الذين قاوموا مشروعه بشراسة، وبينهم اختصاصيون وقيمون على متاحف، لم يقتنعوا حينها بإعطاء كل تلك الأهمية لما بات يسمى اليوم «الفنون الأولى» وكانت تعتبر قبل ذلك «بدائية» و«ساذجة»، ولا تستحق أن تجمع في مكان واحد أو ينظر إليها في سياق إنساني، ومن زاوية نقدية فنية.
كسب جاك شيراك الرهان، وضعت مئات آلاف المعروضات في سياق أعاد إليها قيمتها الحضارية ومعناها. بات متحف «كاي برانلي» من أكثر المتاحف زيارة في باريس، دخله أكثر من عشرة ملايين زائر منذ افتتاحه، تذوقوا فنون أفريقيا الرائعة ومنحوتاتها الخشبية والبرونزية وأقنعتها الباهرة في فنيتها، تعرفوا على أثواب أفريقيا الشمالية وفلسطين، وحلي شرق آسيا، وما خلفته حضارات المايا والإنكا والأزتيك من بدائع وفنون. كان شيراك على علم بأن مشروعه يحتاج لمتابعة باحثين، وعلماء وخبراء في الميدان، بعد أن تعرضت مجموعات كلود ليفي ستراوس للتخريب بسبب سوء العناية، والجهل بالترميم في «متحف الإنسان». ليس غريباً أن يجعل شيراك من كلود ليفي ستراوس نفسه، عبقري الدراسات الأنثروبولوجية في القرن العشرين، أحد أهم مستشاريه ويخصه بمسرح يحمل اسمه في متحفه الأثير الذي أسند تصميمه إلى المهندس الشهير جان نوفل.
هذا المتحف - التحدي، لم يكن سوى التتويج المستحق لاهتمام بدأ باكراً عند جاك شيراك. أثناء زيارته وهو لا يزال صغيراً لمتحف «غيميه»، المخصص للشرق الأدنى، كان يتأمل المعروضات ويعود ليبحث عما يكمل معلوماته في الكتب. يافعاً بدأ تعلم اللغة الروسية حتى قيل إنه ترجم يومها لبوشكين أشعاراً عصية، ثم درس اللغة السنسكريتية. لم يتوقف عن الاهتمام بالآخر، وعن البحث عن المشتركات الإنسانية. قرأ حتى الثمالة عن الحضارات وتاريخ البشرية. كان يحمل باستمرار، ما يقرأ فيه حول هذا الموضوع حين تسنح له الفرصة، كي لا يضيع وقتاً.
قيل كثيراً إنه صديق العرب، خاصة بعد موقفه الصارم من الحرب الأميركية على العراق عام 2003. وبسبب تصريحاته التي لم تهادن في ضرورة قيام دولة فلسطينية، وكذلك لتلك الصداقة الوثيقة التي ربطته بصدام حسين حتى قبل أن يصبح رئيساً للعراق. لكنه في الحقيقة كان صديقاً لشعوب كثيرة بينهم الصينيون وكذلك اليابانيون. وتلك قصة أخرى، لكنها لا تنفصل عن إيمانه بأن الحضارة الغربية ليست مركزاً أو مرجعاً وحيداً للبشرية. زار اليابان أكثر من خمسين مرة، أحب رياضة السومو بتقاليدها ومهاراتها وجذورها، وحين مات بكته الصحافة هناك، وتذكرت كثيرا عنه.
لم يكن شيراك بالضرورة طالباً، مثابراً وصبوراً، ويفضل أن يسند إلى صديقته على مقاعد الدراسة برناديت، التي ستصبح زوجته، مهمة أن تكمل بعض المطلوب منه، غير أنه ألمعي، حاذق، ويدرك ما يريد. وهو وإن بقيت غالبية اهتماماته طي الكتمان، ولم يعرف عنه الفرنسيون لوقت طويل، سوى طلته المهابة ولغته الأنيقة، ومواقفه الحازمة، وبعض أخبار مغامراته بين الحين والآخر، فإنه كان يفضل هذه الصورة، على القول إنه يركن كلما سنحت له الفرصة لقراءة الشعر الذي كان يحبه كثيراً.
وإن كان التركيز منذ وفاته، على متحف «كاي برانلي» الذي سيحمل قريباً جداً اسمه تخليداً لذكره، فهذا ليس المتحف الوحيد الذي خلفه. فقد منح شيراك قبل وفاته كل ما وصل إليه من هدايا، في فترته الرئاسية من كتب وأعمال فنية وقطع نادرة إلى متحف بات يحمل اسمه في مسقط رأسه «كوريز»، وصارت جميعها ملكاً للشعب الفرنسي.
شيراك بين الرؤساء الفرنسيين ليس استثناء. فرنسوا ميتران عرف بولعه الشديد بالقراءة، وعشقه للمعمار ولا تزال الأهرامات الزجاجية الشهيرة لمتحف اللوفر شاهدة على ذلك، وكذلك المكتبة الوطنية التي تحمل اسمه وقوس «الديفانس». وفاليري جيسكار ديستان عاشق للأدب ومتيم بكتابات «غي دو موبسان»، وهو عضو في الأكاديمية الفرنسية الشهيرة، أنجز للفرنسيين «متحف كاي دورسيه» البديع وأطلق في عهده مشروع «معهد العالم العربي». والرئيس جورج بومبيدو لا يزال المبنى الذي يحمل اسمه في باريس تحفة معمارية ومركزاً ثقافياً أساسياً. وشارل ديغول لم يكن فاتحة من دعم السياسة بالثقافة، بتعيينه الأديب أندريه مالرو أول وزير فرنسي للثقافة عام 1959. بمراجعة بسيطة، نجد أن لحكام فرنسا إحساساً عميقاً بأن الثقافة هي التي تصنع مجدهم، والجمال سواء في القصور كما في فرساي، أو الحدائق المنتشرة في باريس والمكتبات، من أدوات السلطة أيضاً. مفهوم لعله يتضاءل، مع الرئيسين الأخيرين. لم تعد فرنسا دولة عظمى لكنها لا تزال دولة كبرى ووازنة، وإحدى أذرع سلطتها ووجاهتها هي هذا البعد الفكري الإنساني لرؤسائها المتعاقبين، الذين يؤمّل ألا يكون جاك شيراك آخرهم.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

شيراك الوجه والقناع شيراك الوجه والقناع



GMT 23:29 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحو قانون متوازن للأسرة.. بيت الطاعة

GMT 23:27 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحن عشاق «الكراكيب»

GMT 23:25 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

التوت و«البنكنوت»

GMT 20:38 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

الصفقة مع ايران تأجلت... أو صارت مستحيلة

GMT 07:51 2021 السبت ,11 أيلول / سبتمبر

الملالي في أفغانستان: المخاطر والتحديات

إلهام شاهين تتألق بإطلالة فرعونية مستوحاه من فستان الكاهنة "كاروماما"

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 20:45 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

مسلسل جديد يجمع حسن الرداد وإيمي سمير غانم في رمضان 2025
  مصر اليوم - مسلسل جديد يجمع حسن الرداد وإيمي سمير غانم في رمضان 2025

GMT 08:28 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

غوتيريش يدعو مجموعة العشرين لبذل جهود قيادية لإنجاح كوب 29
  مصر اليوم - غوتيريش يدعو مجموعة العشرين لبذل جهود قيادية لإنجاح كوب 29

GMT 09:59 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

نجوى كرم بإطلالات استثنائية وتنسيقات مبهرة في "Arabs Got Talent"

GMT 06:27 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

باريس هيلتون تحتفل بعيد ميلاد ابنتها الأول في حفل فخم

GMT 15:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 07:40 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

بايرن ميونيخ يتعرض لغرامة مالية بسبب الالعاب النارية

GMT 10:02 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

فساتين الكاب تمنحك إطلالة ملكية فخمة

GMT 10:09 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

أفكار هدايا مبتكرة ومميزة في موسم الأعياد

GMT 01:58 2018 الأحد ,07 تشرين الأول / أكتوبر

وزير الكهرباء

GMT 19:30 2018 الخميس ,06 كانون الأول / ديسمبر

الفنانة نجلاء بدر تعلن وفاة عمها عبر "فيسبوك"

GMT 18:12 2018 الجمعة ,27 إبريل / نيسان

إغلاق مقاهي روما تحسبًا لشغب جماهير ليفربول
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon