بقلم: سوسن الأبطح
من المفارقات الغريبة أن يتابع العالم بإعجاب إطلاق أميركا صاروخاً يذهب للمرة الأولى في رحلة تجارية إلى الفضاء، بينما يقرأ في الوقت نفسه عن الفشل الذريع للفحوصات الأولى التي أجريت على مرضى «كورونا»، بسبب خلل مخبري، كان يمكن تفاديه، تسبب في كارثة لم تنتهِ ذيولها بعد، ويستغرب عدد الوفيات الكبير، والعجز عن اتخاذ تدابير «تفرمل» انتشار الوباء، ما لم يضعف ويضمحل من تلقاء نفسه. المفارقة تكبر حين ترى بلداً بقوة الولايات المتحدة التكنولوجية والمالية، يصبح مواطنوه بالآلاف، سكنى الشوارع وقد طردوا من بيوتهم بعد شهر من تفشي الوباء، و20 في المائة عاطلون عن العمل. وتستغرب أنت الذي كنت تتابع خطابات تمجيد أميركا وتاريخها ووقوف مواطنيها إجلالاً للنشيد الوطني والعلم بنجومه البيضاء يرفرف شامخاً، وقد أصبح هذا الرمز السيادي هدفاً للحرق والتمزيق ليس من قبل أعداء الإمبريالية كما جرت العادة، وإنما من أبناء هذه الإمبريالية أنفسهم.
كل هذا يذكّر بما كتبه إدوارد لوس قبل سنوات بأنه «لمن المثير للسخرية حقاً أننا نعيش في لحظة انتصارٍ للنموذج الغربيّ، ولكن ليس في الغرب، وإنما خارجه». وفي كتابه الذي صدر قبل سنوات عن «تراجع الليبرالية الغربية» وأثار جدلاً واسعاً، يشرح لنا هذا الصحافي الأميركي المعروف، بأن قيم الديمقراطية والتعليم والنمو أثرت إيجاباً في دول نامية كثيرة، لكن الحال إلى انحدار في الغرب نفسه.
ولوس ليس وحده من ينعى الطبقة الوسطى، ويشكو من البيروقراطية، وضعف اليسار الوسطي، وصعود الأثرياء وسطوة الشركات، وثراء فاحش لقلة على حساب حرمان مدقع للكثرة. فالمشتكون من اختناق الليبراليات ووقوفها أمام حائط مسدود وافتقادها للديناميكية الكافية لتصحيح مسارها لا يتوقفون عن التحذير، منهم إيمانويل تود الذي لا يساوره شك في أن فرنسا ذاهبة إلى «صراع طبقي» بنكهة القرن الحادي والعشرين، وإلى «انهيار كامل للطبقة الوسطى»، وأن «ثورة السترات الصفراء» ستكبر وتنتصر. وليس غير الشعور بالغبن هو ما يفسر نزول هذا الحشد الهائل من المتظاهرين الغاضبين إلى شوارع باريس رابطين بين وفاة شاب من مالي، داكن البشرة عام 2016 ضحية للعنصرية على يد الشرطة، ووفاة الشاب الأميركي جورج فلويد، غير آبهين بخطر «كورونا» ولا بقوانين حظر التجمعات. فالغضب الكامن في الصدور يحتاج مجرد شرارة لينفجر. وهكذا كان الأمر في مينيابوليس، وباريس وعواصم أوروبية كثيرة، تماهت مع ظلم السود. فكل يبحث عن مظلمته عندما تحين ساعة الحقيقة.
وبين الارتجاجات الأوروبية الداخلية التي باتت تهدد الاتحاد، هذا النموذج الراقي للتضامن الإنساني، والزلازل التي تطل علينا من أميركا التي بقيت طويلاً حلماً لكثيرين، يبدو المشهد سوداوياً. وإذا ما أمعنت النظر في الإجراءات التي تتخذها هذه الدول التي قادت العالم طوال الـ150 سنة الماضية، ولا تزال تمسك بمفاتيح كثيرة، سترى أنها في عمقها، تخصص مئات مليارات من الدولارات واليوروهات لإنقاذ الاقتصاد، من دون إصلاح للخلل البنيوي الداخلي لهذه الديمقراطيات التي لا يتغير فيها كثير، إن فاز ديمقراطيون أو جمهوريون، يمينيون أو يساريون. وكأنما الأحزاب الحاكمة هي نسخ معدّلة بعضها عن بعض، لا يرى المواطن، في مسار حياته اليومية، ما الفرق الفعلي بينها.
ويبدو الفكر السياسي قديماً بالياً، وهو يتعامل مع مشكلات لم تعرف لها الشعوب مثيلاً من قبل. يتفشى وباء في الصين، فيصبح في ظرف شهرين في كل زاوية وناحية على البسيطة، وبدل الرد العلمي، تتهم الصين بأنها فبركت الفيروس أو أخفت أسراره. وهي تهم تقليدية عرفتها البشرية بعد كل وباء. وبدل أن تستفيد أميركا من قوتها وما بقي لها من تفوق، بإعادة ربط العالم وفق أنظمة حديثة، يعمد رئيسها إلى الانسحاب من اتفاقية المناخ، ومنظمة الصحة، وتظهر خلافات مع أوروبا، وكندا والصين، وتمتد الصدامات لتصل إلى «تويتر» ومن ثم «سناب شات»، وحين لا يحدث الخلاف مع زوكربيرغ و«فيسبوك»، فإن موظفي «فيسبوك» سيدخلون في نزاعات فيما بينهم، تنتهي باستقالات مهندسين كبار، اعتراضاً على السماح لرئيس أميركا بنشر ما يعتبرونه مثيراً للعنف.
حروب في الداخل، قد تخبو الآن، لتشتعل بعد أشهر. علل وتصدعات، قد لا تكون خطرة حين تصيب دولاً مهيضة الجناح كحالتنا، لكنها تجعل الأرض ترتجّ لحظة تشتعل في بلدان بمقدورها أن تتحكم في اقتصادات، وتفرض عقوبات، وتجوع من تشاء، وتطعم من تريد. فإن كنت ممن يسعدون بمأزق أميركا، فهذا حقك، لكن ما يحدث هناك، ستكون أثمانه كبيرة على الجميع.
الليبراليات الغربية تتخلخل، والبدائل غير جاهزة، كما أن من حكم العالم لعقود لن يتخلى عن موقعه بسهولة. المقبل من الأيام سيكون صعباً، ليس بسبب «كورونا». فكل ما فعله هذا الفيروس الصغير أنه سرّع في انهيارات مالية واجتماعية، كانت بدأت إرهاصاتها من سنوات، لكن الإنترنت، وتناقل الصور، وذيوع الأخبار بأسرع من البرق، سيجعل ما كان يحتاج عقداً ليحدث، ستراه أمام عينيك وقد تحقق خلال أيام.
ومن المفارقات التي لم نذكرها في البداية أن جزءاً من السلاح الفتاك الذي تستخدمه الشرطة الأميركية هذه الأيام في وجه المتظاهرين، مرتجع من العراق وأفغانستان. العالم صغير، وأصغر من أن يتجاهل فيه الأميركي أنين طفل في بغداد أو كابل. وهي نزعة إنسانية باتت عماداً لعالم جديد لا بد سيبصر النور يوماً، وهذا ما يقوله المتظاهرون الناقمون على التمييز.