بقلم - سوسن الأبطح
ليست مفاجأة أن يرحل حنا مينة. فالرجل بلغ الرابعة والتسعين، وخبر موته أشيع أكثر من مرة وتم تكذيبه، كما كتب وصيته، منذ سنوات، ونشرها على الملأ، وكأنه يجهز نفسه للرحيل. ربما لأننا نحن الذين بحاجة إلى ذاك الجيل الذي تطوى صفحته، بأسف شديد، وحزن غامر، وكأن التعويض يكاد يكون مستحيلاً، في زمن كثرت فيه الروايات حدّ الفوضى، وندر وجود الروائيين.
هل ثمة حقاً من لم يقرأ كتاباً لحنا مينة؟ هل هناك من لم يقضِ ليلة واحدة بيضاء لأنه أراد أن يعرف ماذا سيحل بالمناضل فياض أو الطروسي بطل «الشراع والعاصفة» أو زكريا المرسلي في «الياطر» الذي نصفه وحش ونصفه الآخر إنسان؟ هل يمكن أن يكون قارئ عربي قد فوت على نفسه المرور بهذه التجربة الفريدة لأحد كتابنا الاستثنائيين الذين لم يتخرجوا من مدرسة أو جامعة، وإنما من رصيف ومقهى وميناء؟ شيء ما في سيرة مينة تَمُتَّ بصلة قرابة لهامشية محمد شكري وفقره المدقع وكفاحه الذي لم يتوقف. هو أيضاً شبيه محمود درويش في التوصية بعدم كتابة المراثي وإقامة المآتم والطقوسيات الاجتماعية لوداعه. هو رفيق محمد الماغوط الحميم وأقرب الناس إليه وبقي إلى جانبه حتى دخوله الأخير إلى المستشفى، رغم الاختلاف الأدبي في النوع والأسلوب. هو كما غالبية ذاك الجيل الذي رأى في الأدب نوعاً من النضال من أجل قول الحياة أكثر صدقاً مما يعيشها، وشفافية مما يشعرها. هذا الصنف المؤسس بات آيلاً إلى الانقراض، إن في وطنيته أو قوميته، أو إيمانه بأن التجربة تصنع الكتاب، والكدح ينحت شخصيات الرواية، والمثابرة هي وحدها التي تكتب الخطى صوب النجاح.
اتب بقي يردد أنه أصبح أديباً بالصدفة بعد أربعين كتاباً منشوراً وما يماثلها ممزقاً أو مهملاً لأنه فاشل في عينيه. وحين سئل أي كتبه أعز إليه قال: «لم أرض في حياتي عن أي شيء كتبته على الإطلاق. ولو كنت رضيت مرة واحدة لانتهيت». بقدر ما أحب سوريا ناضل في سبيلها من زمن الانتداب وبعده. سُجن تسع مرات، ونفي ثلاثاً حتى وصل مشرداً إلى الصين. عاش فقراً أسود مدقعاً، عمل في كل مهنة استطاعها من الحلاقة إلى العتالة، صبياً في المرفأ وعلى المراكب والبواخر، وصولاً إلى الصحف. حاول كتابة مسرحية في البدء ولم تعجبه فنسيها. ألف القصص ولم يجرؤ على كتابة رواية إلا متأخراً، فكانت «المصابيح الزرق» التي لقيت يومها نجاحاً شجعه ليكمل الطريق، التي يقول إنها بقيت شاقة، وكل ما كان يبحث عنه هو الخبز والكفاية. رفض عروضاً سخية للعمل خارج سوريا، لم يكن يبحث عن المال الكثير أبداً، ولم تخدعه الشهرة، وبقي مثابراً، متواضعاً، إلا في القول إن ثمة من نافسه على الكتابة عن البحر بالأدب العربي.
هنا يبدو مينة صارماً، فهو متأكد أن أحداً في القديم، لا شعراً ولا نثراً، لم يكتب عن البحر وناسه وأجوائه، وعواصفه، وجنونه كما فعل هو، وأن الأدب العربي الحديث بقي خلواً من هذا العالم الذي لا يشبه غيره. كتب عن «نساء المرافئ» وخمارات الموانئ، وعن اللجج والصيادين، وموبقات حياة البحر، ورذائله، كما غرائبه ومصادفاته العجائبية، والموت الذي شاهده تكراراً بأم عينيه. رغم ذلك يعتبر مينة أنه لم يسجل سوى مقدمة من أدب يستحق أن يروى ويكتب، موصياً الأجيال المقبلة أن تتابع المهمة. هو بالفعل «أديب البحر» لكثرة ما كتب عن الأزرق وعوالمه الضاجة بالصخب والمجون، وهو همنغواي العرب، وبقي متفرداً في مجاله، إلا أنه لم يكن يحب كثيراً التسميات والتشبيهات، ولا القول إنه ينتمي إلى مدرسة «الاشتراكية الواقعية». وهو محق.
يساري بالقوة لأنه ولد محروماً بائساً، وبقيت حياته، في كل مراحلها، بحثاً عن تحقيق عدالة لم تعط له. وكل كائن ساع بطبعه للترقي والخروج من قوقعة ظالمة لا يريد أن يسجن فيها. لذلك هو الخجول بطبعه، يردد أن الحظ حالفه، ولا يعرف ما الذي ساقه لأن يصبح مشهوراً ومقروءاً. لله درك يا حنا! لقد قرأت حتى كدت تفقد بصرك، ومع ذلك تقول إنك نلت ما لا تستحق. عشت كل لحظة على اليابسة كما في الماء وأنت تتنفسها، وتعتبر حبنا لكتاباتك مجرد صدفة؟ يا لهؤلاء الكبار حين ينكرون ذواتهم، في زمن الانتفاخات الاصطناعية، والنجوميات «الفيسبوكية»! هو يعرف في قرارة نفسه ذلك، لذلك يقول بأنه جيله كان «في الأدب أرسخ»، والكتابة تطيعهم وتلين لهم. أنكر دائماً أن تكون أي من رواياته الكثيرة سيرة ذاتية أو ما أشبه، لأنه لم يفعل سوى أن يكتب ذاته، بالتالي فشخصياته هي مرآته وفي الوقت نفسه مختلفة عنه. لذلك كان يعاود قراءة نصوصه ليتعلم من أبطاله، شيئاً من قدرتهم على الصبر والمواجهة والتحدي.
ذهب «الرجل الشجاع» تاركاً لنا مئات الشخصيات، وعشرات الكتب، وسيرة تستحق إعادة التشريح والكتابة وتسليط الضوء على مكامن القوة والجبروت فيها، وحباً للعالم ليس فيه حقد المحروم، ولا ثأر الفقير من الغني. بالعكس كان حنا مينة شغوفاً بالأرض والوطن والصدق والحرية، وقال في أيامه الأخيرة، وهو يقيم وحيداً مع مرافقه في بيته، إنه يعيش بغزارة، لأن كلمة واحدة من محبيه الذين يسألون عنه تساوي كل ما كتبه من أدب. الرحمة لحنا مينة ولجيل علمنا «الإنسانية» دون أن يدّعي بطولات، أو يطلق شعارات، ويفصّل نظريات وتحليلات.
نقلا عن الشرق الاوسط اللندنية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع