توقيت القاهرة المحلي 14:21:48 آخر تحديث
  مصر اليوم -

لبنان يسلخ جلده

  مصر اليوم -

لبنان يسلخ جلده

بقلم: سوسن الأبطح

يعلم اللبنانيون أن بلدهم ليس فقيراً؛ لكنه منهوب. يدركون أن لهم من الطاقات والخبرات والثروات ما يعمِّر لبنانين، وينتشل اقتصادين. يعرفون جيداً أنهم يوم يضعون قطارهم على السكة الآمنة، فلهم في الخارج ملايين الإخوة المغتربين القادرين على الضخ في شرايين الوطن بما يلزم. هؤلاء الذين في مهاجرهم، يتحرقون للمساعدة، منذ بدء الانتفاضة، فتحوا قنوات فيما بينهم، حوارات عابرة للقارات، يتناقشون حول حاجات لبنان الجديد، ويتساءلون عما يمكنهم أن يقدموه، غير الاحتجاج الرمزي أمام السفارات. كلهم ترك أهله ذات يوم مذعناً ومنكسراً؛ ليس للحاجة فقط؛ بل لحاقاً بطموح لم يعد لبنان يلبيه، أو هرباً من مذلة لزعيم صارت مقيتة وممجوجة، أو نجاة بالروح من نزاعات طائفية، لا اسم لها سوى ضيق الأفق، وتناتش للمغانم.
ضاق الناس صدراً بكل ما مضى، بكل هذا التاريخ الملطخ بالدم والقهر، والحرمان من فلذات الأكباد، الذي أضيف إليه في العقد الأخير كم من الاختلاسات لا يمكن أن يصدق. الأرقام الفلكية للمبالغ المسروقة تضرب على عصب الناس الذين أُفقِروا حد الجنون. يبدو أن ملياري دولار هو حجم التهرب الضريبي الرسمي الذي يوزع على النافذين، ومبلغاً مماثلاً يهدر سنوياً على الكهرباء المقطوعة أصلاً. حتى مشكلة النفايات التي تفتك بصحة الناس، هي موضع تنفيعات في الأصل وليست قلة حيلة. لم نعد نسمع بالألوف أو الملايين، صار المليار هو الوحدة التي تعد بها المبالغ المفقودة. جاءت الضرائب المتراكمة في السنة الأخيرة لتصل بالاستفزاز إلى أقصاه. حقاً كانت الستة دولارات ضريبة على مكالمات الـ«واتساب»، هذا الاختراع الشيطاني الذي لم يخطر على بال دولة في الكون، هو الشعرة التي لا بد من أن تقصم ظهر البعير.
حصل ما لم يكن في حسبان المحتجين أنفسهم. لا أحد يعرف كيف انفجر كل هذا الغيظ المكبوت دفعة واحدة. كأنما فاضت الكأس بقطرها. فات السلطة أن انكشاف أخبار الصفقات، وكثرة تداولها يحقن جمهور الناس. ربما لم ينتبهوا إلى أن الجيل الجديد له منطق آخر. أحد الشبان المتظاهرين وقف يصرخ: «زعماء الطوائف ضحكوا على أبي وأمي وأجدادي؛ لكنهم لن يستطيعوا أن يفعلوا الشيء نفسه معي. أنا من سأُفهم أهلي كيف يتعاملون مع هؤلاء». تلك حقيقة. انتفاضة الساحات يقودها شبان، يأتون بعائلاتهم وليس العكس، يشرحون لمن هم أكبر منهم أنهم استُغلوا أكثر مما ينبغي، وأن ما يسكتون عنه لم يعد مسموحاً، ويسخرون من التقسيمات المذهبية. عموم المتظاهرين يعنيهم أن يجدوا عملاً، ويحصدوا أمناً، ويبنوا مستقبلاً، الشعارات الكبيرة لا تعنيهم، والكلام في السياسة ليس شاغلهم.
لذلك، ليست صدفة أن تسقط الحواجز الطائفية فجأة، أن يسأل المتظاهر عن المنطقة التي جاء منها، فيرفض الإجابة؛ لأنه لبناني فحسب، لا انتماء آخر له.
مشهد المتظاهرين في الساحات اللبنانية بهتافاتهم الخارجة من القلب وبساطتهم ووحدتهم، أجمل من أن يصدق! كنا نسمع بالثورة ولم نختبرها. يحصل أن يفاجَأ المرء بنفسه، عندما تندلع ثورة، بأصدقائه، بمن هم حوله. يرى ملامح الوجوه قد تغيرت، الصلات بين الناس أكثر رحمة. الهوة بين الطبقات تردم بفعل التلاقي اليومي، وتوحُّد الهتافات، وتبلوُر الحلم.
كلهم يريدون استعادة المال المنهوب، جميعهم يهتفون لمحاسبة المختلسين. ثمة قناعة مشتركة بأن الطبقة الحاكمة التي توارثت البلاد وأفقرتها وعاثت فساداً، لا تؤتمن على القليل المتبقي. الشعور عند المتظاهرين بأنهم هنا من أجل الإنقاذ. أن وجودهم وقفة ضمير مع أنفسهم وأولادهم ووطنهم. لكلٍ قصة جاء من أجلها، وخلاص من ظلم يسعى إليه.
لم يسبق للبنانيين أن خرجوا عن بكرة أبيهم منذ الاستقلال، في مظاهرات عابرة للطوائف والمناطق والطبقات والأحزاب، دفاعاً عن كرامتهم وقوت يومهم، كما يحدث اليوم. نحن على مفصل. كل منا يشعر بأنه يعيش لحظة تاريخية. أياً تكن نتيجة المظاهرات، ثمة تغير عميق حصل. أمر ما كسر. ما بعد 17 أكتوبر (تشرين الأول)، مختلف كثيراً عما قبله.
مشكلة السلطة أنها لا تزال غير مصدقة. هذا خطير، كل لحظة تمر ترفع سقف المطالب في الشارع، وتضعف هامش المناورة عند السلطة. الانتظار لا يخدم مصلحة أحد. الناس لا يريدون أقل من تغيير الطبقة التي تواطأت وتقاسمت مغانم البلاد. على المسؤولين إيجاد الآليات الآمنة للنجاة بالسفينة قبل أن تغرق. الورقة الإصلاحية التي قدمها رئيس الوزراء سعد الحريري، كانت لتبدو مغرية قبل الانفجار الكبير. بعد أن خرج ما يقارب مليوني شخص إلى الشارع، لم تعد الهتافات المرتفعة تسمح بقراءة أوراق وتقديم مسوّدات. يريد المتظاهرون حلولاً بحجم عذاباتهم. هؤلاء شبان يريدون وطناً يشبه زمنهم، يحترم ذهنياتهم. ما عاد لائقاً في زمن التوظيف الإلكتروني أن تطلب من الخريجين طرق أبواب الزعيم بدل الكبس على الأزرار، ولا بمقدور أحد أن يقنع مواطناً بصعوبة تأمين التيار الكهربائي، والطاقة تولد من الشمس والهواء والنفايات، وشخص واحد في لبنان أمكنه بمبادرة ذاتية إضاءة مدينة بأكملها. ثمة نظام تآكل، نهش نفسه بنفسه، قضمته عصبياته وتخلفه وقبائليته وجشعه، وعليه أن يخلع جلده ليولد من جديد. ذلك ليس مطلب المنتفضين فقط. هو واقع يفرض نفسه. ومن في السلطة يعرفون ويكابرون، بدليل إجماعهم على أن خروج الناس إلى الشارع هو حق بعد كل ما ارتكب، واعترافهم بأن ما اقترفوه مجتمعين أكبر من أن يُسكت عنه. يبقى أن يأخذوا ما يتوجب عليهم من إجراءات، للانقلاب على أنفسهم بسلاسة، ويُجنبوا وطنهم مُر الكأس.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

لبنان يسلخ جلده لبنان يسلخ جلده



GMT 23:29 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحو قانون متوازن للأسرة.. بيت الطاعة

GMT 23:27 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحن عشاق «الكراكيب»

GMT 23:25 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

التوت و«البنكنوت»

GMT 20:38 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

الصفقة مع ايران تأجلت... أو صارت مستحيلة

GMT 07:51 2021 السبت ,11 أيلول / سبتمبر

الملالي في أفغانستان: المخاطر والتحديات

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 22:50 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

بشرى تكشف عن أمنيتها للعام الجديد
  مصر اليوم - بشرى تكشف عن أمنيتها للعام الجديد

GMT 15:45 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 15:36 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : ناجي العلي

GMT 15:47 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 11:46 2024 السبت ,14 كانون الأول / ديسمبر

مبابي أفضل لاعب فرنسي في موسم 2023-2024 ويعادل كريم بنزيما

GMT 08:09 2024 الثلاثاء ,04 حزيران / يونيو

مميزات كثيرة لسيراميك الأرضيات في المنزل المعاصر

GMT 05:00 2024 الثلاثاء ,08 تشرين الأول / أكتوبر

بوجاتي تشيرون الخارقة في مواجهة مع مكوك فضاء

GMT 05:50 2024 الخميس ,05 أيلول / سبتمبر

تسلا تنشر صور للشاحنة سايبرتراك باختبار الشتاء

GMT 13:06 2021 الأحد ,03 تشرين الأول / أكتوبر

منة شلبي عضو لجنة تحكيم الأفلام الطويلة بمهرجان الجونة

GMT 20:51 2021 السبت ,11 أيلول / سبتمبر

رسميًا إيهاب جلال مديرًا فنيا لنادي بيراميدز
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon