بقلم - سوسن الأبطح
في الأشهر الثلاثة الأخيرة، هربت من لبنان عبر البحر، أعداد غير مسبوقة من المهاجرين غير الشرعيين. كنا نسمع عن عشرة غرقى، عشرين في القارب الواحد، أصبحوا مائة. محاولات الفرار ازدادت، ونسبة المغامرة، ووحشية المهربين وجشعهم. هؤلاء صاروا يدفعون بضحاياهم في قوارب لا تصل إلى قبرص التي تبعد عشر ساعات عن الشاطئ اللبناني، حين يتعذر عليهم تدبير مركب آمن، خشية مطالبتهم بالبدل المالي الذي تقاضوه من الركاب. حال المهرب يقول: «اقتلهم خيراً من أن تعيد لهم أموالهم!».
عرفنا أن أكثر من ستة مليارات دولار دخلت لبنان بفضل مليون ونصف مليون سائح في الصيف، أي في عزّ ذروة التهريب نفسها، كأنما المليارات تزيد الفقراء عوزاً، والأغنياء طمعاً.
لبنان كان على خريطة التهريب هاوياً؛ لأن المهاجرين يفضلون المرور عبر تركيا إلى أوروبا، بمعية اللاجئين السوريين. ومع تغير الظروف، أصبحت ببنين في عكار مركزاً لتهريب السوريين واللبنانيين معاً، يضاف إليهم الفلسطينيون، بعد أن ارتفعت الأسعار في تركيا، وكبرت الضغوط.
لحظة انفجار مرفأ بيروت عام 2020 كانت مفصلاً حاسماً، من بعدها طافت النفوس كمداً، ما سهّل الاستغلال ويسّر أمر «تجّار الدم» من مافيات المهربين وأذرعهم، ليتمددوا ويوطدوا أعمالهم.
كان الهاربون في غالبيتهم ضعاف التعليم، بلا شهادات، صار بينهم المهندس والطبيب، كما الميكانيكي والنجار. تشجعت النساء كذلك، أخذن المبادرة وركبن البحر من دون رجل. أحمد ميقاتي الذي نجح في الوصول إلى السويد بعد سبع محاولات فاشلة، لم تردعه مأساته الخاصة عن المجازفة بابنه، وهو في الثانية عشرة، وتسليم حياته لسماسرة الموت وحيداً، بلا أب أو أم، بحجة أن الجيران على متن المركب نفسه. الجديد هو نمو عدد الأطفال والرضّع والنساء الحوامل، وموت عائلات بأكملها. رغم علم المهاجرين أن رهانهم، مقامرة كبرى، نسبة نجاحها لا تتعدى الخمسين في المائة.
قبل سنة، كان المهربون يتخفون بأسماء وهمية، ويتركون في الواجهة بعض مكاتب السفر والسمسرة. صرنا نعرف بلال نديم ديب وعشيرته، وبقية أسماء العائلات التي احترفت الاتجار بالبشر بوجه مكشوف، وجبين عالٍ. ابن عم المهرب بلال، المسؤول عن موت مائة شخص على الأقل، يدافع عن قريبه بحجة أن منافسيه يتآمرون عليه ويدسّون له المهاجرين دساً في مراكبه، لتكبير أحمال سفنه؛ لأن الرجل نجح في رحلات سابقة وذاع صيته، وصار له حسّاد يحيكون الحبائل. منطق الدفاع عن الجلاد، هذا، لا يبرئ أحداً من دماء الأطفال وجثثهم الطافية بالعشرات في المتوسط.
مثلث الموت اتضحت معالمه. من المدن السورية المتاخمة للحدود اللبنانية الشمالية يعبر الركّاب بمعونة المهربين البريين، الذين لهم صلة وطيدة بالمهربين البحريين في بلدة ببنين العكارية وجوارها، ومن مخيم نهر البارد للاجئين الفلسطينيين المتاخم لببنين، تأتي مجموعة أخرى من الركاب، ومن عكار وطرابلس يحضر اللبنانيون. المهربون في ببنين، مركز التجمع، لهم امتدادهم البحري إلى أوروبا. لا أحد، بالطبع، يستطيع رسم الخريطة الكاملة لعمل مافيات تنسق وتدفع الرشاوى في كل اتجاه كي تيسر أعمالها. لا يستغرب أحد المطلعين على ميكانيكية عمل هذه العصابات، ألا يتبقى للمهرب الكبير من أصل سبعة آلاف دولار يدفعها الراكب الواحد أكثر من ألف دولار، فالأفواه فاغرة، والعيون مفتوحة، والرشاوى والجريمة هما لبّ العمل وأساسه.
الصيادون في بلدة ببنين الحدودية مع سوريا، لم يرث أولادهم مهنة اصطياد السمك الشريفة، وإنما استبدلوا بها مطاردة البشر وحبسهم في شباكهم. أي شيء بعد الغواية الكبرى بالسفر يمكن أن يحدث؛ من الاستيلاء على بيت الضحية بعد تنازله عنه لصالح المهرب، وتركه بلا مأوى وبالتالي استحالة عدوله عن فكرة السفر، زجّه على مركب صيد صغير مع عشرات آخرين ليهلك، إرسال الركاب إلى عرض البحر بدون مازوت كافٍ لإغراقهم عمداً، لتحقيق مآرب غير منظورة.
لا يعبأ أحد بزينب القاق التي اضطرت لربط رضيعها بالمركب، وتركه في الماء، للاحتفاظ بجثته وهي تنتفخ وتتشوه أمام عينيها لأيام، وهي تنتظر مع باقي أولادها من يعثر على قاربهم في البحر. ولا يتذكر أحد آلاء الحامل التي فقدت جنينها الأسبوع الماضي، وهي تسبح ليومين قبل أن تبلغ الشط، ولا عميد دندشي وزوجته اللذين نجَوَا بأعجوبة بعد أن فقدا أولادهما الثلاثة، وحرما من سماع كلمة ماما وبابا. هؤلاء وغيرهم العشرات، مجرد دفعة على الحساب في جنازة جماعية أبطالها فقراء، ومنظموها سفاحون.
تتشابه حكايات التهريب في المتوسط إلى حد يشعرك بأنك أمام عصابة واحدة تدير كل هذا الألم المجنون. بؤساء يبيعون متاعهم، سماسرة يزينون أوروبا في عيون طرائدهم، تجار دم يعدون ضحاياهم برحلة بحرية آمنة، يصلون فيها إلى إلدورادو «الرجل الأبيض». الاتجار بالبشر، تقدر أرباحه السنوية بـ30 مليار دولار، وهي الأكثر ربحاً بعد المخدرات والسلاح. ممارسة عادة ما ترتبط عند المتمرسين ببيع الأولاد، وسرقة الأعضاء، وإجبار النساء على الدعارة، وجرائم القتل، والخطف.
المركب اللبناني الذي غرق مقابل طرطوس السورية، الأسبوع الماضي، فتح الأعين للمرة الأولى على مافيات تهريب تجبر الركاب على الإبحار تحت تهديد السلاح، وهو ليس إلا جزءاً من مشهد جهنمي لا يزال في غالبيته غامضاً ومسكوتاً عنه، ويتوجب على الدولة أن تكشف خيوطه العنكبوتية التي تلتف على رقاب البؤساء.