توقيت القاهرة المحلي 02:14:48 آخر تحديث
  مصر اليوم -

«لي كوان» بنسخة لبنانية

  مصر اليوم -

«لي كوان» بنسخة لبنانية

بقلم - سوسن الأبطح

كان جورج زريق فقيراً، وعاطلاً عن العمل، محتاجاً وبائساً يبحث عن فرصة خلاص، ومع ذلك فإن السبب المباشر الوحيد الذي استحق منه أن يضع حداً لحياته وإشعال نفسه حياً في مدرسة ابنته، هو إحساسه بأنه غير قادر على توفير تعليم لائق لها. احتمل الرجل هو وزوجته مهانات كثيرة، ديوناً فاضت عن قدرتهما على الوفاء، فاوض المدرسة طويلاً، حصل على إعفاء من الأقساط المقدرة بآلاف الدولارات، ومع ذلك لم يتمكن من تسديد القليل المتبقي مقابل النقليات والقرطاسية، فانفجر غضباً مشتعلاً. تقول قصة جورج إن اللبناني على استعداد لأن يجوع لكنه يضعف حد الموت حين يحرم أولاده من تعليم ينقذ مستقبلهم. لذلك يدفع اللبنانيون طوعاً رغم العسر، ما يزيد على ثلاثة مليارات دولار سنوياً للمؤسسات التعليمية الخاصة، التي أعماها الجشع، ولا تزال تبتزهم، بعد أن أدركت أنه لا غنى لهم عن بضاعتها. سبعون في المائة لا يزالون يسجلون أولادهم في المدارس والجامعات الخاصة، رغم أن ثلث اللبنانيين يعيشون تحت خط الفقر، هذا يدلك على أن التعليم قد يسبق الطعام وأولويات كثيرة أخرى.
وقر في نفس المواطنين أن المدرسة الرسمية المجانية لا تفي بالغرض ولا توصل إلى النجاة، لم تسع السياسات بعد انقضاء الحرب لتحسين الصورة أو تجويد المضمون. بالغ الساسة في اعتبار مدارس الدولة مكاناً لتوظيف محاسيبهم، ونفخ شعبيتهم وتبييض وجوههم، بدل أن تعامل كمكان للانصهار الوطني والاندماج الإنساني. مع اللجوء السوري واكتظاظ المدارس، بدت الأمور أشد سوءاً، وازداد الزحف باتجاه المدارس الخاصة. ومن المفارقة أنه كلما ارتفعت معدلات الفقر، بدا للأهالي أن تضحيتهم في سبيل التعليم يتوجب أن تكون أكبر، واستبسالهم أشد.
جسد جورج المحترق يؤكد أن المعادلة لم تعد صالحة. أن جيوب كثيرة فرغت، وأن استعادة الثقة بالمدرسة الرسمية صارت أولوية كالكهرباء والماء وتلزيم آبار النفط التي تعطيها الحكومة الجديدة جل اهتمامها. مع أن المدرسة هي البنية التحتية الأولى التي يتوجب العمل على إصلاحها.
غريب أنه لم يتم تعديل البيان الوزاري بشكل طارئ بعد أن أشعل جورج زريق نفسه، وكان الوقت سانحاً، ليتضمن بنوداً واضحة ومحددة لإصلاح البنية التعليمية. حكومة «إلى العمل» وهي في فاتحة عهدها، لن تصل إلى مبتغاها من دون تأهيل البنية البشرية أولاً. يستطيع رئيس الوزراء سعد الحريري، وهذه فرصته الذهبية التي قد لا تأتيه مرة أخرى، أن يكون لي كوان يو لبنان، كما الأب المؤسس لسنغافورة الذي أدرك باكراً أن بلده الصغير الخارج من الحروب، المدمر من الفقر، والمفتقد إلى الموارد، الذي يتربص به الجيران، لا خلاص له إلا ببناء الإنسان. لا عوائق أمام الإرادات المخلصة، فكما لبنان، لا بل وأكثر، في سنغافورة ملل ونحل وقوميات، وأديان وخلافات ولغات مختلفة. وضعت الآيديولوجيات جانبا، وأخلص لي كوان لفكرة تأهيل الفرد وجعله الركيزة الأولى لمشروعه الوطني. مرات عدة تم العمل على النظام التعليمي، حتى تبلور ووصل إلى أفضل الأنظمة على الإطلاق، وتفوق على اليابان وكوريا. لم تصرف سنغافورة في البدء مبالغ مهولة على التعليم، لكنها جعلته مكاناً للأكثر كفاءة ومهارة. لم تكن مناهجها الأفضل عالمياً لكنها اعتبرت الأساس الأستاذ الأمهر لا الأكثر واسطة، والتلميذ يفترض أن يتم التعامل معه وفقاً لقدراته الفردية ومهاراته الشخصية. ثمة تشابه كبير بين تعقيدات سنغافورة التي كانت مجرد جزيرة لصيادين، ثم مستعمرة وموضع أطماع جارتها الماليزية، ولبنان الباحث عن طريق النجاة وسط جهنم النيران المشتعلة حوله. فكرة نيرة أن يدرس النظام السنغافوري التعليمي والمراحل التي مر بها، والفنلندي والياباني والاستفادة من التجارب. لا تزال الحكومة في بداية عهدها، وحادثة جورج زريق يفترض على مأساويتها أن تكون ملهمة لوزير التربية أكرم شهيب الذي أبدى تفهماً وتعاطفاً كبيرين مع الأسرة المنكوبة. القضية ليست فردية يا معالي الوزير، تعلم أن ثمة آلاف الحالات البائسة، ومئات التلامذة المهددين، وعشرات ممن لا يبالون بإحراق أنفسهم في المدارس. و«الجامعة اللبنانية» الوطنية شبه المجانية التي هي الملجأ الوحيد، وتستقبل كل الطلاب دون تفرقة، اقتطع من ميزانيتها 20 في المائة، بدل أن تدعّم وتشجع لتزدهر، فيما الجامعات الخاصة تنمو كما الفطر المتوحش دون مستوى أو رقابة، وتستنزف مداخيل الناس. غير مفهوم أيضاً، أن يغدق سياسيون وأصحاب نفوذ تبرعاتهم على جامعات خاصة، فيما نادراً ما يلتفت إلى الجامعة الوطنية التي بمقدورها أن تحقق قفزة نوعية إن أعطيت الإمكانية. حالات الانتحار إلى تصاعد مهول، هناك من يدعو إلى عدم الالتفات إلى الأرقام التي هي في حد ذاتها كبيرة، بسبب التكتم ودرء العار عند العائلات، مقدرين أن ثمة شخصين على الأقل ينتحران كل يوم، وغالباً ما تأتي البطالة وضعف الحال على رأس قائمة الأسباب.
حكومة «إلى العمل» لن تنهض بالبلد من دون أن تبدأ برسم استراتيجية واضحة لخريطة التعليم، وإعادة تحديد أهدافه، وتنظيم مؤسساته وفق قوانين تحفظ للطلاب وعائلاتهم كرامتهم، وتوفر لكل طفل حقه في أن ينمو بذكاء ويشحذ مهاراته، دون أن يتحول والداه إلى مستجدين، وينتهي الأمر بهؤلاء الأطفال رماداً متفحماً في باحات المدارس.

 

نقلا عن الشرق الاوسط اللندنية

المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

«لي كوان» بنسخة لبنانية «لي كوان» بنسخة لبنانية



GMT 08:51 2021 الأحد ,07 شباط / فبراير

أين نحن من المفاوضات الدولية مع إيران؟

GMT 08:50 2021 الأحد ,07 شباط / فبراير

المعرفة التي قتلت لقمان سليم

GMT 08:46 2021 الأحد ,07 شباط / فبراير

لقمان سليم وتوحش النظام الإيراني

GMT 08:44 2021 الأحد ,07 شباط / فبراير

4 مليارات ثمن 12 بيضة

GMT 15:45 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 15:36 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : ناجي العلي

GMT 15:47 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 11:46 2024 السبت ,14 كانون الأول / ديسمبر

مبابي أفضل لاعب فرنسي في موسم 2023-2024 ويعادل كريم بنزيما

GMT 08:09 2024 الثلاثاء ,04 حزيران / يونيو

مميزات كثيرة لسيراميك الأرضيات في المنزل المعاصر

GMT 05:00 2024 الثلاثاء ,08 تشرين الأول / أكتوبر

بوجاتي تشيرون الخارقة في مواجهة مع مكوك فضاء

GMT 05:50 2024 الخميس ,05 أيلول / سبتمبر

تسلا تنشر صور للشاحنة سايبرتراك باختبار الشتاء

GMT 13:06 2021 الأحد ,03 تشرين الأول / أكتوبر

منة شلبي عضو لجنة تحكيم الأفلام الطويلة بمهرجان الجونة

GMT 20:51 2021 السبت ,11 أيلول / سبتمبر

رسميًا إيهاب جلال مديرًا فنيا لنادي بيراميدز
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon