ظننا أن الدول الفقيرة وحدها من ستدفع ثمن العولمة، لكن تبين أن أميركا هي أولى ضحاياها مع أنها رائدتها وحاملة لوائها، والمبشرة بليبرالية التجارة والفكر.
وبعد أن قررت أميركا أن مصالحها الوطنية أولاً، ولو كان ذلك على حساب إخوتها الأوروبيين، وأنه لا للمهاجرين، ونعم للحمائية، وشهرت سيف العقوبات، والحصار الاقتصادي ضد من يخالف أوامرها، ويعصي شروطها، وقطّعت أوصال العالم، وقسمته بين خيّر وشرير، يبدو أنها ساهمت في تطويل مخالب أعدائها.
تتطلع الصين لأن تصبح القوة الاقتصادية الأولى في العالم بحلول 2049، وهو ما لا تريد أميركا السماح به، وحتماً كانت سعيدة لأن ترى الصينيين يغلقون حدودهم ويعلقون تأشيراتهم، ويصدون زوارهم حتى كانوا آخر دول العالم إغلاقاً خشية من كورونا.
لكن هذا لم يغير كثيراً في حمّى السباق. يقول خبراء إن الصين باتت متقدمة على الولايات المتحدة في 37 صناعة تكنولوجية استراتيجية من أصل 44 مجالاً حساساً. وأن 10 على الأقل من أهم المؤسسات البحثية العالمية، موجودة في الصين، وأنها 9 مرات أكثر خصباً من حيث الإنتاج، وهذا هو الأهم. على أي حال، من المنتظر بعد ما يقارب سبع سنوات أن يصبح حجم الاقتصاد الصيني، ما يوازي 87 في المائة من الاقتصاد الأميركي، لكن هذا لا يعني أن الصين ستصبح، في غمضة عين سيدة العالم، لكنها، حتماً، صارت شريكة أساسية في قيادة الكوكب.
ألمانيا تعتبر الصين علناً، ومن دون مداراة «القوة المعادية لها»، لكنها، مع ذلك، لا يمكنها الاستغناء عنها، لأنها شريكتها الاقتصادية الأولى، وأكبر سوق للسيارات الألمانية. مأساة الغرب أنه لم يعد يستطيع الاستغناء عن نظام يصفه بـ«الديكتاتوري» و«التجسسي» وينتهك حرية مواطنيه. لكنه، قد لا يكون على هذا القدر من السوء، كما كتب الصحافي الإيطالي السندرو سانسوني الذي كان بين أول الواصلين، بعد فتح المطارات للزوار، والصين كانت آخر من رفع الحجر وسمح بالتنقل. ويقول الصحافي: «أتأمل وأقول لنفسي، (إنهم متحضرون مثلنا)»، ويشرح للقراء أنه لم يلحظ أي معاملة مثيرة للريبة، أو مسح لكود، لتتبعه خلال أيام إقامته. الصين عادت إلى الحياة بقوة مع 100 ألف زائر في الأيام الخمسة الأولى من شهر مايو (أيار). بكين حاجة عالمية وليست فقط وجهة سياحية ارتفعت فيها نسبة الحجوزات 500 في المائة نسبة إلى ما قبل كوفيد.
لم تضيع الصين وقتاً، كانت مريضة لكنها تعمل، حولت الوباء إلى فرصة، كما جعلت من العقوبات التي فرضت على روسيا بشراسة مناسبة مثلى لتطوير صناعاتها والاعتماد على الذات. حاولت أميركا محاربة الصين بحجب الرقائق الإلكترونية عنها، باعتبارها ماء الحياة للصناعات التكنولوجية، فنما إنتاج الرقائق في الصين أسرع من أي مكان آخر في العالم، لتعويض ما منع عن هواوي وهيكفيجين وغيرهما.
أكثر من ذلك، دفعت أميركا غريمتها لأن تأتي 19 شركة صينية في قائمة الـ20 الأسرع نمواً بصناعة الرقائق الإلكترونية خلال الأربعة فصول الماضية، مقابل 8 شركات فقط، في العام الذي سبقه.
وبما أن بكين تستفيد بعد هذا الحجر الطويل، والعقوبات المتفاقمة، من الحصول على النفط بأسعار تنافسية من روسيا، التي تهرب من الحصار الأميركي هي الأخرى، بتصريف إنتاجها في الصين، فقد انخفضت تكلفة الإنتاج الصيني، بسبب الوقود الرخيص، وأصبحت أكثر تنافسية في العالم أجمع، مقارنة بالبضائع الغربية.
راهن الغرب على الأزمة العقارية، ومن ثم على حملة محاربة الفساد التي قادها الرئيس الصيني تشي جينبينغ، لتعزيز المشاعر المعادية له، وقيل الكثير عن غياب الديمقراطية، وغضب الشباب الذي لا بد سينفجر، لكن يقول أحد المعلقين الغربيين: «لا بد أن نعي أن النظام التعليمي الصيني نجح في مهمته، إذ نلحظ صعوداً لجيل شاب يتمتع بحس قومي وطني، متمسك بقوة بالمشروع الصيني، ويتطلع بشوق إلى تحقيق الهدف المنشود: قيادة العالم». المعارضة موجودة في بلد المليار و400 مليون مواطن، لكن كفة المؤمنين بضرورة اللحاق بمشروع تشي تغلب وترجح.
أوروبا لم تضيع الوقت هي الأخرى، فهمت أن مصالحها مع أميركا ليست واحدة، وأن عداوتها مع الصين بحاجة لشيء من التشذيب والتلطيف. تعلم الأوروبيون من درس الحرب الأوكرانية - الروسية، وقبلها وباء كورونا لتعزيز الاعتماد على أنفسهم. جهدوا لكسر الاحتكار الروسي الذي أسرهم في مجال الغاز والطاقة، وتحكم الصين بصناعة أدويتهم، وكومبيوتراتهم، وغالبية احتياجاتهم اليومية.
لكن الإحساس الصيني بالخطر أكبر، بعد أن شهد الجميع شراسة العقوبات التي فرضها الغرب على روسيا. ما كانت تظنه أميركا سلاحاً انقلب ضدها. للمرة الأولى وقعّت «توتال» مع الصين في مارس (آذار) الماضي، عقداً لتحميل ونقل 65 ألف طن من الغاز المسال مقابل مبلغ باليوان الصيني. وهذا كان غير متخيل قبل شهور فقط. جاء الاتفاق بعد عقود صينية مع دول، منها روسيا والأرجنتين وأفريقيا الجنوبية بأن يتم التعامل معهم باليوان أيضاً. تجميد 300 مليار يورو لروسيا بحجة العقوبات، جعل دولاً كثيرة في العالم تسعى لتخفيف اعتمادها على الدولار واليورو. الصين خفّضت احتياطاتها من الدولار من 1040 ملياراً إلى 867 خلال عام واحد فقط.
للمرة الأولى، وفي سابقة تاريخية، اشترت البنوك المركزية في الدول الناشئة في الأشهر الثلاثة الأخيرة من العام الماضي 400 طن من الذهب للتخلص من الدولار. أصبح بحوزة روسيا أكثر من 2200 طن من الذهب، والصين تملك ألفي طن على الأقل. ويعتقد أن الكمية الحقيقية أكثر من ذلك بكثير.
الخوف من العقوبات أكبر هدية قدمتها أميركا للصين، مع أن العلاقة بين الاقتصاد الصيني والغربي، هي صلة تشابك وتمازج ما يجعل معاقبة الصينيين، من دون إلحاق الغرب بنفسه أذى مدمراً، مهمة شبه مستحيلة.