تحاول إسرائيل بمساعدة شركائها الغربيين أنفسهم، أن تستكمل نكبة 1948 و1967 بحيث تطرد ما تبقى من فلسطينيين في غزة باتجاه سيناء وتوطنهم هناك، ثم تتخلص من فلسطينيي الضفة بوطن بديل في الأردن، قبل أن تستفرد وتجهز على عرب 48. هو فصل جديد إذن، من فصول تفريغ فلسطين وإقامة الدولة اليهودية الخالصة. مخطط قديم، كتب وحكي عنه الكثير، وبقي الحالمون أمثالنا، يفكرون أن بمقدورهم، بحسن نياتهم، تحسين الأهداف أو تعديلها.
وإذا أحببت أن تسمعها بوضوح فلك أن تصغي للكاتب الإسرائيلي من أصول كورسيكية ديفيد أنطونيللي الذي قالها قبل أيام، وساعدنا على إجلاء الصورة: «نحن لا نريد أن نحتل غزة وإنما أن نستعيدها، فهي لنا. وبحسب التوراة فإن لله السماوات والأرض يعطي ملكه لمن يشاء، وقد أعطاها لنا». شارحاً أن آخر ما يعنيه هو مصير المليوني شخص الموجودين هناك. ليذهبوا إلى مصر أو أي مكان آخر، فهؤلاء تربوا على الحقد على اليهود.
والأخ أنطونيللي وصل من كورسيكا إلى إسرائيل قبل سنوات قليلة جداً، ويريد أن يستعيد «أرض إسرائيل»، لأنه يبدو أننا قد أصبحنا، وفق هذا الكاتب، الذي مرجعيته التوراة «في آخر الزمان».
وننسى أن الحكومة الإسرائيلية المتطرفة التي تقود الحرب الشعواء حالياً، على غزة، تعتنق عقائد تنسجم تماماً مع التي يعبّر عنها أنطونيللي، وهو يبشر بإسرائيل النظيفة من العرب كما وعده بها الله، بحيث لا يقلقه سوى هذه المفاهيم «المودرن» من «حقوق الإنسان» إلى «القانون الدولي» و«العولمة» وغيرها، التي لا تتواءم وإيمانه التوراتي.
مجزرة مستشفى المعمداني، الموجودة في غزة منذ القرن التاسع عشر وبقربها كنيسة ومسجد، والتي لجأ إليها العزل من الأطفال والنساء ظناً منهم أنهم في مأمن، قصفتها إسرائيل بمن فيها، ضمن هذا السياق التطهيري، حيث إن 400 أو 1000 فلسطيني يقتلون، لا يهم. فالهدف النهائي هو إذابة كل ما على الأرض للانقضاض عليها. «قد نستعيدها دماراً ما يهمنا، نعيد بناءها من جديد» يشرح أنطونيللي.
لهذا يأتي الرد من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، ولا بد أن يزداد قوة مع الوقت: «ما يحدث في غزة ليس عملاً ضد (حماس)، بل لدفع السكان إلى الرحيل باتجاه مصر»، عارضاً بدل ذلك نقل أهالي غزة إلى النقب، أي إلى أراضيهم التاريخية، بينما تتمكن إسرائيل من إنهاء حساباتها مع «حماس»، كما تدّعي.
الأردن أيضاً يعرف المخطط جيداً، لهذا كرر الملك عبد الله أن «لا لاجئين في الأردن، ولا لاجئين في مصر».
يبقى السؤال الجوهري هو كيف يمكن منع إسرائيل من استكمال تنفيذ أحلامها الشيطانية؟ فالمجزرة الرهيبة التي ارتكبتها متعمدة بقصفها مستشفى المعمداني في غزة، لا جديد فيها، بالنسبة لمن قرأ التاريخ. فهي لا تفعل هذه المرة، سوى أن تستكمل مجازرها التي بدأتها منذ عام 1937، وارتكبها المهاجرون الأوائل حتى تحت الاحتلال البريطاني لتطفيش الفلسطينيين مروراً بـ«دير ياسين»، و«قانا» و«صبرا وشاتيلا»، وجميعها كانت موجهة ضد العزل لترويعهم.
منذ بدء هجومها الأخير على غزة، مهدت إسرائيل لمذبحتها هذه بعشرات الارتكابات المرعبة التي كانت بمثابة اختبارات للرأي العام، لتعرف درجة الإجرام التي يسمح لها بممارستها. وقد فعلت ما لا يغتفر ومع ذلك، قوبلت بالصمت.
محت بنيران طائراتها أحياء بكاملها ودفنت تحتها سكانها، لا سيما حي الرمال في قلب غزة النابض، وقصفت مراكز الدفاع المدني ورجاله حتى وهم يسعفون الجرحى، وقصفت سيارات الإسعاف، ومخازن وكالة «الأونروا» من دون أن تأبه لأمميتها. طلبت مما يزيد على مليون شخص أن يغادروا من شمال القطاع إلى جنوبه، في تهجير قسري سافر مريع يرقى إلى جريمة حرب. لا تزال رسائل طلب الإخلاء تتوالى، والطائرات تقصف حتى الهاربين. وتحت ذريعة أن من يقصفون «حيوانات بشرية» حقّ لإسرائيل أن تقتل أهالي غزة جوعى وعطشى وفي الظلام، محرومين من لملمة أشلاء أحبائهم بحرمانهم حتى من الضوء.
قامت إسرائيل بالاختبار تلو الآخر قبل أن تقدم على جريمتها التي ارتكبتها لا على أنها فعل حرب، وإنما للتشفي والانتقام لاسترداد شيء من هيبتها، وللتسريع في تفريغ الأرض من أصحابها.
المنطقة كلها تغلي على وقع النيات الشريرة، والدماء الغزيرة، والمخططات الجهنمية. نحن عشية توسعة حرب، القصد منها نكبة جديدة، وتغيير في الخرائط، هذا ما تقوله إسرائيل، وما فهمه الجميع من الخريطة التي عرضها نتنياهو مؤخراً في الأمم المتحدة، حيث لا وجود لأرض فلسطينية عليها.
الموقف العربي في هذه الواقعة الكبرى، هو حجر الأساس. اليوم تكتب صفحات أخرى من التاريخ العربي. فإما تضاف نكبة أخرى مقرونة بـ 2023، أو يسجل أن العرب استعادوا شيئاً من شرفهم والعزّة. فمع الإصرار على التطرف والحقد والرغبة الهمجية في الإبادة، لا يوجد حلّ وسط، لسوء الحظ.
بعد أعمالها الوحشية وشهوتها العارمة بالاستحواذ والتملك والابتلاع، بات على إسرائيل أن تختار بين الفصل العنصري ووسمها بالـ«أبرتايد» وهذه وصمة قد تقضي عليها، أو أن تمارس «التطهير العرقي»، تحت رعاية وحماية ما يسمى تجاوزاً «العالم الديمقراطي الحر»، فتقتل من تقتل، وتهجّر من تهجّر، ثم ينسى العالم فعلتها، ويمجّد قوتها وانتصاراتها. فهل يعقل أن تنجح؟