بقلم: سوسن الأبطح
أحسنت صنعاً «اليونيسكو» حين اختارت «اللغة العربية والذكاء الاصطناعي» عنواناً لاحتفاليتها باليوم العالمي للغة الضاد. فالنقص حاد، والتأخر واضح، والسباق يشتد ونحن في ذيل اللائحة. لا تزال اللغة العربية ضعيفة إذا ما أُخضعت لاختبار الترجمة الآلية، وبالكاد تفهم النص الذي تحاول نقله إلى لغتك عن الإنجليزية أو الفرنسية، فيما الترجمة بين اللغتين الأخيرتين ترتقي إلى مستوى قد يتجاوز 85% من حيث الوضوح والدقة. حاول أن تستخدم خدمة «سيري» الشهيرة واللطيفة على «آيفون» تدرك أن هاتفك يفهم ويتحدث الفصحى بصعوبة بالغة، وستجد نفسك مضطراً إلى استخدام الإنجليزية لتسهيل المهمة. أجهزة الذكاء الصناعي الأكثر تداولاً في اليوميات، مثل «ألكسا» و«كورتانا» و«غوغل هوم» لا تستطيع تلقي أوامرك الصوتية بالعربية لتختار لك أغنيتك المفضلة، أو قناتك التلفزيونية الأثيرة، أو حتى أن توقظك في اليوم التالي للذهاب إلى عملك، مع أنها تجيد ما يقارب 15 لغة، ليست بينها لغة الضاد التي تصنف خامسة في العالم من حيث عدد المتحدثين بها. كيفما يمّمت وجهك لتواكب هذه الأجهزة الذكية المغرية التي ستتطور بسرعة وتصبح جزءاً من مستقبلنا القريب، تجد أنك تتعثر باللغة، إلا إذا كنت من محبي التعامل مع لغة أجنبية في حميمياتك البيتية. وبانتظار مشروع «سلمى» الذي يعمل عليه أردنيون لينطق بعاميات عربية عدة، ومشروعات لغوية صغيرة ومتفرقة غيره، ندفع جميعنا ثمن التقاعس والإهمال، وانتظار الغرب، وما يمكن أن يقدمه لنا، لنكتشف مخيبين، أنه كان مشغولاً بلغات أقرب إليه جغرافياً، أو ثقافياً، وأربح من حيث كثافة السكان كالهند والصين.
انتظرنا دائماً، من يقوم بالمهمة نيابةً عنا، ولم نسعَ بجهد جماعي، ومؤسساتي، لنحل مشكلاتنا اللغوية مع التكنولوجيا، بحجة فرادة العربية مرة، ووجود ثلاثين لهجة مرة أخرى، أو أن السياقات الدلالية صعبة. الذرائع وفيرة من بينها صعوبة التراكيب وكثرة الاستثناءات في اللغة، وغناها المفرط في المفردات، وستجد مائة سبب ليقال إن الذنب هو على العربية نفسها لا على أهلها. وهو كلام مردود؛ إذ إن الفرنسية في كيبك غيرها في باريس، والإنجليزية في بريطانيا مختلفة عن أميركا وكندا والدول الأفريقية التي تستخدمها.
بدل الانكباب على العمل، استسلمنا لفكرة غريبة، هي أن الإنترنت لم تُخلق للعربية بقدر ما تليق بها اللغات الإفرنجية.
على أي حال قامت كوريا الجنوبية بجانب من المهمة، وأنجبت شركة «إل جي» هناك، أول تلفاز ذكي بمقدوره أن يتلقى الأوامر بالفصحى وبعدد من اللهجات مثل السعودية والمصرية وينفذها. جهد مشكور يبقى على أهميته جزئياً، لكنه يمهد الطريق أمام فتوحات أخرى.
الأمة بحاجة إلى كدح أبنائها الذين بينهم عشرات الآلاف ممن تخصصوا في مجال البرمجة واللسانيات، وكثير منهم يشكون البطالة وضيق الحال، فيما توظيفهم لحل عُقد لغتهم يحتاج إلى مؤسسات تحضنهم، وتمويلات تشّغلهم ومشاريع تستثمر أفكارهم.
المشكلة التي أثارتها «اليونيسكو» مركّبة. فمهمة تعريب الآلات الذكية تحتاج إلى ذهنية وطنية، ورغبة في دخول العالم الجديد بهوية واضحة واستقلالية، وعمل على البرامج التي هي شبه جاهزة لأنها طُورت كثيراً لغاية اليوم لتستقبل اللغات. إنما إضافة إلى البرامج ثمة حاجة إلى معالجة اللغة نفسها، ومراكمة نصوصها كبيانات. وإذا كانت هذه «البيانات» متوفرة كتابةً في الفصحى، فهي غائبة بشكل شبه كلّي في العامية، خصوصاً أن الشبان قرروا استبدال الحرف اللاتيني بحرفهم العربي، مما يجعل كل ما يكتبونه يذهب هباء الريح، وغير صالح للتحليل والعمل عليه، لا سيما أن برمجة اللغة تحتاج إلى آلاف النماذج كي يتمكن البرنامج الذي يحللها من استخلاص النتائج.
فأين هي النصوص والبيانات العامية الوفيرة، التي نحتاج إليها، كي تنطق الأجهزة الذكية بعاميّاتنا، وتندغم في يومياتنا؟
ضعف العربية المحوسبة أو التأخر في حلّ مشكلاتها لفترات تطول، سيزيد العوائق أمام العربي الطامح أبداً إلى تكنولوجيات العصر والمتحمس لها؟ فقد بدأت حوسبة اللغة في أميركا منذ خمسينات القرن الماضي، وفي أوروبا في الستينات، كتحضير للانفتاح المنشود بين بلدان القارة العجوز، وهو ما أتاح لهم تواصلاً سهلاً عبر الترجمات الآلية التي يعتمد عليها بشكل كبير.
كثيرون يعملون على مشاريع مشرذمة، كلٌّ في ميدانه وعلى مشروعه. التشبيك لا يزال غير كافٍ والتنسيق الضعيف لا يثمر، مع أن العرب إذا هم تفرّقوا في كل ميدان جمعتهم الفصحى على الأقل. والنجاح في حوسبة العربية كما يليق بها أن تكون سينعكس نتائجه على كل ناطق بالضاد وراغب فيها، وسيفتح باب تطوير التعليم المدرسي، وتبسيط مناهج اللغة بالتخلي عن دروس النحو التقليدية التي عفّى عليها الزمن، ويسهل بالتالي تعليمها للناطقين بغيرها. ثمة أكثر من مليار ونصف المليار من المسلمين يتطلعون إلينا.
كل هذا لا يحتاج إمكانيات ضخمة، وإنما خلايا عمل جدية، تضم متخصصين يقومون بجمع مدونة اللغة العربية التي تضم نصوصاً متراكمة منذ 1500 سنة، ومن ثم العمل على ترتيبها من وجهة نظر حاسوبية صالحة للبرمجة. ولا بأس أن تهتم الجامعات باستحداث أقسام للسانيات الحاسوبية لتخريج مؤهلين متخصصين في برمجة اللغة. المعضلة في أساسها هي في الاستخفاف بالعربية كلغة لها قيمتها الروحية، ومكانتها الثقافية، وامتدادها الجغرافي الواسع. والاستغراب دائماً حاضر في عيون من يُقبلون على تعلم العربية بسبب صدودنا عنها وتقاعسنا عن مساعدتهم، فيما هم ينشدون مجرد تبادل الأحاديث معنا دون هذا الإصرار المزمن، منّا، على دسّ المفردات الأجنبية.