توقيت القاهرة المحلي 14:21:48 آخر تحديث
  مصر اليوم -

العودة إلى قوانين الرقابة

  مصر اليوم -

العودة إلى قوانين الرقابة

بقلم - سوسن الأبطح

اضطر وزير الداخلية الفرنسي جيرالد دارمانيان لاتخاذ إجراء غير شعبي، أثار انتقادات واسعة، عندما لجأ مؤخراً إلى حظر بيع كتاب عنوانه «صغير للغاية» لمن هم دون الخامسة عشرة من العمر، للمؤلف مانو كوز، ولاقى هذا القرار استهجاناً من قبل الناشرين والمكتبات، ونقابة المؤلفين، لطبيعته الرقابية التي يرفضها المدافعون عن حرية التعبير، وحق الكاتب في التحليق بأخيلته حيث يشاء، كما حق القارئ مهما صغر سنه في الاطلاع والمعرفة. لكن الوزير كان حاسماً وقال: «إن القرار قد اتخذ»، و«الكتاب يمثل خطراً بسبب محتواه البورنوغرافي الصريح». وللتوضيح فإن الأديب مانو كوز متخصص في الكتابة للمراهقين وحائز جوائز، وقصصه تقرر في المدارس، وقد دافع عن كتابه هذا بأنه أنجز بالتعاون مع محرر متخصص، بشأن المشاهد الحساسة، التي أدين كتابه بسببها.

لكن وزير الداخلية - وهذا نادر وغريب - حين وجد أن ثمة ما هو غير مقبول، ويتوجب اتخاذ إجراء صارم بحقه، تمكن من العثور على قانون يسمح له بذلك، فلجأ إلى الشرطة الإدارية واستخدم قانوناً يعود إلى العام 1949، ملأه الغبار، لكن من يخالفه يعاقب بدفع مبلغ يقارب أربعة آلاف يورو. ويبدو أن ثمة لجنة للرقابة على المنشورات، ينص عليها القانون لم تعد سوى شبح، ومنذ عام 1982 أصبحت مشلولة، لكنها هذه المرة، استثنائياً، كانت فاعلة.

ولسنا وحدنا من استغربنا منع كتاب للمراهقين، في بلاد الحريات، فقد أعرب المؤرخ والباحث جان إيف مولييه عن دهشته -كما معظم الكتّاب والبارزين في الحياة الأدبية- من استخدام هذا التشريع، ومن العودة إلى نصّ ظهر في أعقاب الحرب العالمية الثانية، كان الهدف منه حماية الأطفال من الدعاية الفاشية والعنصرية والقصص المصورة الأميركية.

عاد وزير الداخلية الفرنسي ليحتكم لهيئة استشارية فقدت نفوذها في السبعينات، ومع وصول جاك لانج كوزير للثقافة لم تعد تجتمع، أو يسمع بها أحد. ويرى المؤرخ والأستاذ الجامعي جان إيف مولييه فيما يحدث تأكيداً للأطروحة التي يدعمها، ومفادها أن حياة المجتمعات دورات «لذا فإن عصور الليبرالية تلتها فترات قمعية أكثر. ونحن اليوم نخرج من دورة ليبرالية للغاية، وندخل في دورة قمعية متزايدة». إنها خطوة إلى الوراء، بالنسبة للبعض.

وهذا إن دلّ على شيء، فهو أن الحساسيات تتغير بسرعة، وصرنا نعيش بين من تطرفوا في الدفاع عن الحريات، ومن ذهبوا في الاتجاه المعاكس واستماتوا في الاعتراض عليها، وهو ما بات يستوجب رأي العقلاء في عالم مليء بالجنون والثأريات، حيث لا مكان للتسويات والمناطق الوسطى.

يتفاجأ برنارد جوبيرت، وهو مؤلف «معجم الكتب والصحف المحظورة بموجب المراسيم الوزارية» من عام 1949 إلى يومنا هذا، وهي ليست بكثيرة، ويرى أنه عندما يُعاد تفعيل قانون لم يتم استخدامه منذ سنوات فإن الأمر مثير للاهتمام، والوزير دارمانيان بممارسته عبر قانون منسي يوقظ ممارسة كانت نائمة لفترة طويلة.

ومع أن وزارات الداخلية تلعب دور الخفير والشرطي، وفي بلاد موليير، يفترض أن يترك لوزارة الثقافة النظر في هذه الشؤون وتقدير الأمور، غير أن هذه الوزارة لا تزال تدرس الملف، وكان هذا غير متخيل قبل سنوات قليلة جداً.

وحين تتابع النقاشات حول الإسلام والحجاب في فرنسا، والغرب عامة، يخيل إليك أن الغالبية لا تزال تعيش في زمن ما قبل الاستعمار، وقبل هجوم ملايين المهاجرين باختلافاتهم وتنوعاتهم على القارة الأوروبية. صحيح أن الغريب والمهاجر هو الذي عليه أن يتأقلم مع الغالبية، لكن أوروبا أيضاً لا تستطيع أن تعيش كما في القرن التاسع عشر، وكأنها لون واحد، وانتماء موحد، فيما أصبح الإسلام الدين الثاني، والمسلمون في غالبيتهم من الشباب، ولهم ديناميكيتهم وحيويتهم.

وحين تواجه السويد مشكلة عدم وجود قانون يمنع حرق الكتب المقدسة، لأن العلمانية هي سمة أساسية في البلاد، فقد أصبح 10 في المائة من سكانها، بسبب الحروب والأزمات في منطقتنا، من المسلمين المؤمنين الذين لا يحبون كثيراً العلمانية. هذا من جهة، ومن جهة ثانية تشهد استوكهولم تصاعداً في شعبية اليمين المتطرف، والأصوات العنصرية، وأصبحت الأخبار الآتية من هناك مثيرة لحساسيات كثيرين يرون في سلوك بعض المتطرفين استفزازاً، ولو قالت السلطات هناك إنها تدين ذلك.

وفي لبنان، رغم العورات والكوارث، ثمة نظام عمل به طويلاً يحفظ العلاقات بين الطوائف. يكفي أن تشتكي طائفة من أن مشاعرها قد مُسَّت، بسبب عمل فني أو كتاب أو فيلم، حتى يتدخل الأمن العام، وغالباً ما يتم المنع مراعاة للطائفة المشتكية. وهذا نهج أرَّقنا طويلاً، ونظرنا إليه على أنه متخلف، ويحدّ من الحريات، ويعطي الكلمة الأخيرة لرجال الدين، ولا يتناسب والقرن الحادي والعشرين، إلا أن ما نراه اليوم من منع لكتاب من وزارة الداخلية في فرنسا، أو حرق للقرآن متكرر في أماكن متعددة من أوروبا أغلبها في السويد وهولندا والدنمارك، يجعلنا نشعر بأننا، بحكم التجربة الطويلة والحروب الدموية في مجتمع متنوع الحساسيات، توصلنا فعلاً إلى حلول وسطية، وإن كنا لا نزال نحتاج لتطويرها.

فحرق الكتب السماوية، والسخرية من الأنبياء بالرسوم الكاريكاتيرية، لا نتيجة لها سوى تأجيج مشاعر الحقد والبغضاء. لذلك ستجد هذه الدول حتماً، بعد أن أصبح المسلمون جزءاً أساسياً من القارة البيضاء، وسيلة للتعايش بين الأديان المختلفة، كما وجدوا ذات يوم وسيلة للوئام بين المتدينين والملحدين، بوضع نظم علمانية ليبرالية ديمقراطية، يبدو أن الزمن بدأ يتجاوز بعض ممارساتها. وصار كل شيء في حياتنا بحاجة إلى إعادة تعريف من «حرية الرأي» إلى «حقوق الإنسان» و«حدود الكاتب» وحتى وظيفة وزير الداخلية.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

العودة إلى قوانين الرقابة العودة إلى قوانين الرقابة



GMT 20:18 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

مؤتمر الصحفيين السادس.. خطوة للأمام

GMT 14:59 2024 الثلاثاء ,03 أيلول / سبتمبر

مشاهد مُستَفِزَّة.. “راكبينكم راكبينكم..”!

GMT 06:36 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

… لأي قائمة يسارية ديمقراطية نصوت ؟!

GMT 06:23 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

ماذا قال يمامة؟

GMT 06:16 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

مشكلة إصلاح التعليم

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 22:50 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

بشرى تكشف عن أمنيتها للعام الجديد
  مصر اليوم - بشرى تكشف عن أمنيتها للعام الجديد

GMT 07:12 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

فينيسيوس الأفضل في العالم لأول مرة وهذا ترتيب ميسي وصلاح

GMT 15:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 22:56 2019 الإثنين ,09 كانون الأول / ديسمبر

إيهاب جلال يطمئن على فريد شوقي بعد تحسن حالته

GMT 16:26 2019 الأحد ,10 آذار/ مارس

سيدة كل العصور

GMT 06:37 2018 الثلاثاء ,28 آب / أغسطس

تعرف على سعرالمانجو في سوق العبور الثلاثاء

GMT 01:04 2018 الثلاثاء ,01 أيار / مايو

وداع أندريس إنييستا يخيم على احتفالات برشلونة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon