بين ما تنذر به الهيئات الاقتصادية الدولية من كارثة لبنانية محققة، وما يبشر به وزير السياحة ومنظمو الحفلات والمهرجانات وأصحاب الفنادق من مفاجآت سارة، وموسم صيفي لاهب بالنشاطات والسياح والمداخيل بالمليارات، لا بد من أن تصدّق ما تراه عيناك.
ما يزيد على ثمانين مهرجاناً على مدى شهرين فقط في بلد صغير مثل لبنان، يعني الكثير، إنْ لجهة القدرة على دفع التكاليف أو إمكانية استثمارها. أضف إلى ذلك حفلات «ستاند أب كوميدي» يومية، ومسرحيات غنائية. «كركلا» يعرض من دون انقطاع، في مسرحه في «الأيفوار»، ومسرحية «شيكاغو» ما إن تعلن عن حفلات جديدة حتى تنفد بطاقاتها فوراً. الفنانون هم أنفسهم في دهشة مما يعيشون. من المفترض أن اللبنانيين لا طاقة لهم على دفع تكلفة النقليات التي تقصم الظهر، لكن حفلات المهرجانات التي تتطلب قطع مسافات وتُدفع مواصلاتها بالدولار حصراً، تلقى إقبالاً غير مسبوق، وهي في غالبيتها محجوزة.
حقاً غريب ما يحدث. بمقدور الزائر أو المقيم أن يجد لكل يوم برنامجاً عامراً في لبنان. مجموعات «الهيكينغ» التي تنظم رحلات سيراً على الأقدام في الجبال والوديان، تنشط وتجوب المناطق، منهم من أضاف التخييم والسير فجراً على ضوء القمر، أو مراقبة غروب الشمس من أجمل المرتفعات. ثمة من خطرت له فكرة التسلق والتأمل واليوغا معاً. أنشطة لكل الأذواق والأعمار، ساعد على رواجها وسائل التواصل التي أتاحت للشبان أن يعلنوا عن برامجهم، ويوصلوا أخبارهم وفيديواتهم المغرية بالتجوال في الطبيعة الخلابة، إلى حيث أرادوا وبالمجان.
لبنان تاريخه مشحون بالأحداث، وكلها تعني الزائر وتؤجج مشاعره. في طرابلس ابتكرت جمعية «مارش» نوعاً جديداً وغريباً من الجولات السياحية، تقود الزائر إلى خطوط التماس بين منطقتي جبل محسن وباب التبانة، التي شهدت في السنوات العشر الأخيرة ما لا يقل عن 19 جولة حربية انتهت بمصالحة بين الإخوة، كللتها هذه الجمعية بمسرحية وأعمال فنية، وها هي تحول الحرب إلى مصدر رزق للمقاتلين القدامى الذين يقودون الجولات السياحية، بدءاً من مقهى المصالحة بين المنطقتين، مروراً بالممرات الضيقة والأزقة التي شهدت أعتى المعارك منذ الحرب الأهلية وحتى سنوات قليلة خلت.
«جولة الحب والحرب» كما أطلقت عليها جمعية «مارش» هي فكرة جهنمية، تريك كيف يمكن لأعداء أمس أن يصبحوا قادة لتغيير مجتمعاتهم وتوجيهها صوب السلام والتسامح بين الطوائف المتجاورة. الحاجة أم الاختراع، والانهيار الاقتصادي الرهيب كان يشبه السقوط المفاجئ من قمة شاهقة إلى قعر وادٍ سحيق، استفاق بعدها اللبنانيون، ولحسن الحظ أنهم تنبهوا سريعاً، مدركين أن لا دولة لهم تنقذهم، ولا مسؤولين ينبرون لإنصافهم، ولم يجدوا أمامهم سوى الهجرة أو تدبر أمر رزقهم في بلادهم، فانقسموا بين هذا وذاك.
في الصيف يجتمع شمل المهاجرين والمقيمين والحيوية تعلو نبرتها، لكن المقاهي والمطاعم منذ شهور بدأت تفتح بالآلاف. الحركة عفية، والزبائن يستهلكون ويصرفون، رغم أن الأسعار بالدولار، فيما غابت الليرة، وخفت الانهيار وباتت نتائجه حكراً على موظفي القطاع العام، فيما الأسعار تناطح الجبال، ولا من يسأل.
هذا ولم نتحدث بعدُ عن الحفلات الغنائية للفنانين المصريين التي هبّت على محبي الترفيه كالماء الزلال فاجتذبت حفلة تامر حسني أمواجاً من البشر، وتمكن عمرو دياب من أن يتدلل ويطلب 750 ألف دولار يحصل عليها مع حبة مسك، ومن يكون له الأسبقية في الحصول على التذاكر يبيعها بآلاف الدولارات في السوق السوداء.
هذا لا يعني أن كل اللبنانيين بمقدورهم حضور دياب أو حسني، ولكن ديناميكية مذهلة تحرك مجتمعاً، ليس مفهوماً وفق أي منطق اقتصادي يسير.
فلا الإصلاحات التي طلبتها الهيئات الدولية من الحكومة أنجزت، ولا البنوك عن أرصدة المواطنين التي أكلتها أفرجت، ولا الكهرباء أصلحت، أو المواصلات العامة أنجزت. كل ذهب يحاول إنقاذ نفسه بابتكار فكرة جديدة تؤمّن عملاً مربحاً، لاقاهم المغتربون بمساعداتهم المالية السخية التي سمحت لثلاث سنوات من القحط الشديد أن تعبر بأقل الخسائر الممكنة.
يخبرنا وزير السياحة أن حملته الصيفية العام الماضي التي أطلق عليها «أهلا بهالطلة» أدخلت إلى لبنان ما يزيد على ستة مليارات دولار، وهو مبلغ مهول. هذه السنة، ينتظر لبنان مليوني سائح بزيادة 20 إلى 30 في المائة عن العام الفائت، فكم ستكون مداخيل «أهلاً بهالطلة أهلاً» شعار وزارة السياحة للعام الحالي؟ بخاصة أن هذا العدد من القادمين هو أكبر من الذين استقبلهم لبنان قبل عام 2018 أي قبل الانهيار والوباء. ثلث هؤلاء السياح من العرب والأجانب؛ ما يعني أن الخارج لم تعد لديه النظرة السلبية التي كانت تمنعه من المجيء، أضف إلى هؤلاء مغتربي المهاجر من أصول لبنانية في أميركا اللاتينية مثل البرازيل، الذين يعودون لزيارة أرض الأجداد بأعداد لافتة، وهذه ظاهرة جديدة.
صيفُ لبنان يتحدّى البطالة، ويعاند التشاؤم والأرقام الأممية. القطاعات الخدماتية متعطشة لموظفين، وكفاءات كثيرة هاجرت، وأخرى تعود مستفيدة من الفرصة. الحركة لا تهدأ في مطار بيروت، والملاهي والفنادق والمسارح.
لا أحد يعلم ما هو مدخول الفنون والثقافة وهذه الفورة الشبابية في ابتكار الأعمال التي تتناسب جميعها ودور لبنان المصرّ على دوره الفني والجمالي، وهو مقتنع بأن هذا ما أُعطي له، وعليه أن يستفيد منه.
نصدق وزير الإعلام اللبناني زياد مكاري حين يقول: «إن الدخل القومي الأعلى في لبنان هو كل ما له علاقة بالفن والثقافة والهندسة والكتب والسينما. فثروة لبنان هي الناس والعقل والطموح والحلم».