بقلم: سوسن الأبطح
«لا عودة إلى الوراء»، هذا ما يقوله الشباب المحتجون، والمصرّون على مواصلة الضغط، للحصول على مطالبهم. استقالة حكومة سعد الحريري بالنسبة لهم، ليست سوى خطوة يجب أن تتبعها قفزات. هم مستعجلون جداً، ولحسن الحظ أن بينهم من يعمل على التهدئة، والشرح، وثمة من أخذ على عاتقه رسم خريطة طريق، يوزعها ويعممها. شعار «كلن يعني كلن» الذي أطلقته حركة «طِلْعِت ريحتكن» أثناء احتجاجها على أزمة النفايات عام 2017، ويتبناه المتظاهرون من حينها، لا يسعف كثيراً. لعله واحد من أسوأ الشعارات وأكثرها مخاتلة في نظري. سهل، بسيط ومعبّر، لكن يوحي بما يصعب تحقيقه. يستشعر المتظاهرون اليانعون وهم يطلقونه، أن النظام سيسقط ويتهاوى أمام أعينهم في لمح بصر، أو أن دحرجة أحد مداميكه ستودي به كله.
لذلك بدا أن سقوط الحكومة وحدها لم يحدث الدوي المنتظر. لم يشعر الناس بأنهم تقدموا بما يرضيهم. ثمة من أحسّ بالغبن لأن زعيمه ذهب وزعيم غيره لا يزال ينتظر. أين الكل الباقي؟ تلك قضية تحتاج شرحاً. فالشعار الجامع لا يعطي فكرة عن الخطوات ولا الآليات الدستورية، ولا الأزمنة التي يستغرقها لإطاحة الجميع. وهو ما يحتاج في أحسن الاحتمالات سنة أو سنيناً. أمر لا يبدو للمتظاهر الطموح مقبولاً. جاءت الاستقالة من دون اتفاق مسبق على حكومة جديدة، ومن ثم كانت مماطلة رئاسية في إطلاق الاستشارات النيابية. هذا جيل لا يطيق الانتظار. تصور المتظاهرون أن السبحة يفترض أن تكرّ سريعاً، تقديراً لوجودهم في الشارع ولكثرتهم وزخمهم. الشعار الشهير أوحى للبعض بأفكار جهنمية يمكن أن تحقق التغيير السريع. كل الشعارات تصبح أحياناً أسراً بدل أن تفتح أفقاً. من حسن حظ هذا الغضب الشعبي العارم أنه لم يفرز شعاراته، والقليل جداً من الأناشيد والأغنيات، ولم يفرز أيضاً وجوهاً أو قيادات ولا أسماء. هي حركة الناس، وكل ما يرددونه للحماس وشد الأزر، مجلوب من ثورات سبقت، مثل: «الشعب يريد إسقاط النظام»، حتى الأغنيات مستعارة من ثورة الأرز أو غناها مطربون للبنان ومحناته. بقيت العبارة الأكثر شهرة وترداداً، وقرباً من قلوب الناس، هي: «كلن يعني كلن». هذا يريح كل محتج، لأن طائفته ستعامل بالمثل كما الطوائف الأخرى.
أحلام بوسع وطن يحملها المتظاهرون، حماسة، ومطالب عالية السقف يواجهون بها طبقة سياسية متجذرة في السلطة، متمرسة في حياكة المخارج ورسم الخطط. من يستمع للمحازبين على الشاشات ويصغي للشباب في الطرقات، يعرف أن الفجوة كبيرة جداً. بعد استقالة سعد الحريري، عادت أحزاب السلطة لتنسق وتتشاور فيما بينها. ثمة رغبة في الذهاب إلى حكومة شبيهة بالتي سبقتها، بأقنعة وقفازات، بينما يرصد المحتجون التصريحات ويتابعون الأسماء، ويتحرون عن التحركات، مصرّين على عدم رؤية الوجوه القديمة، والانتماءات السالفة.
كيف توازن الأحزاب الموجودة في البرلمان بتركيبتها التقليدية، وطريقتها البائدة في التفكير، بين أسلوبها الذي تجمد في الزمن، وصراخ الشارع الذي ضرب عرض الحائط بكل مقاييسها واعتباراتها، وما كانت تستند إليه من توازنات عند تكليف رئيس للوزراء في الحكومات السابقة، أو اختيار الوزراء وأعدادهم. اشتمّت جريدة «لوموند» الفرنسية رائحة ثورة «مايو (أيار) 68» الشبابية الشهيرة في الاحتجاجات اللبنانية. وربطتها جريدة «ليبراسيون» بسيل الانتفاضات التي تجتاح العالم في هذه الفترة، من هونغ كونغ إلى الجزائر، ومن تشيلي إلى العراق، في محاولة لفهم الروابط بينها. يتبين أن الشرارات التي منها انطلقت الاحتجاجات مختلفة، ولكل بلد خصوصيته، لكنها جميعها تريد أمرين أساسيين؛ مكافحة الفساد، وكسر هذا التزاوج الرهيب بين أهل السلطة وأصحاب المال الذي بدأت بوادره منذ بدء ثمانينات القرن الماضي، مما جعل سياسات هذه البلدان في خدمة الأغنياء ليراكموا ثرواتهم بدل أن تأتي لنجدة الفقراء. لهذا بدا شعار «كلن يعني كلن» متضمناً أحياناً حاكم مصرف لبنان، وقد تمتد اللائحة لتطال آخرين. ما يحدث الآن هو صراع فعلي بين التقليد والحداثة. قرأنا كثيراً؛ عن النضال من أجل التجديد في ستينات القرن الماضي، عن قضايا الشعر الحديث وصراعاته، وانقلابات التقدميين على الرجعيين في سدة الحكم ومطامحهم، وعما يتوجب فعله لإقناع الناس بالتخلي عن أدواتهم القديمة. لكن ما يحدث الآن لا تسميات له، ولا نظريات تسبقه أو تلحقه، أو مثقفون يدعون له. هي حركة جارفة لأناس نزلوا إلى الطرقات، والساحات، بينهم مسنون، وجمعيات، وأساتذة جامعات وعمال وعاطلون عن العمل وأولاد برجوازيات، كلهم سعداء لأنهم يجتمعون حول أشياء بسيطة كترديد الأناشيد، وتبادل الآراء، واقتسام طبق، فيما المطالب حياتية، كتنشق الهواء النظيف، والعثور على لقمة لم تلوث، وسكن لا تتكوم حوله النفايات.. كل هذا في رأيهم، على بداهته، لم تعد تؤمنه بنية ترهلّت وتصدعت.
الأحزاب بدأت تسنّ سكاكينها. استعرضت عضلات رجالها، كل على طريقته، منهم من كان أكثر أناقة من الآخر. يعتقدون على ما يبدو أن الوقت يلعب لصالحهم، وهو ما يجعل المحتجين يثابرون أكثر، وينشطون كما لو أن التعب لا ينال منهم. لعبة عضّ الأصابع متواصلة في كل المناطق. محاولة استنفار المشاعر الطائفية على أشدّها، لأنها السبيل الوحيد لشق الصف وتشتيت الأهداف. بقدر ما للمحتجين من موهبة في الابتكارات الطريفة للمّ الشمل وتأليف القلوب، بقدر ما للطبقة السياسية من مهارة في التقسيم والتفتيت. لذلك، وبدل الشعار الذي أسيء فهمه، الميل الجديد هو للتأكيد على أنه لإحباط محاولات التقسيم والتفريق؛ المواجهة ستجمعنا: «كلنا يعني كلنا».