هل الديكتاتورية وصفة مناسبة للزمن الذي نعيش فيه؟ قد يبدو السؤال بحد ذاته غريبا لكنه مطروح بقوة مع صعود النموذج الصيني، الذي بدأ يشدد قبضته بسرعة فائقة جدا على مليار و400 مليون شخص، بطريقة لم يسبق أن حدثت في تاريخ البشرية، بفضل تحكم الدولة في شبكة إلكترونية عملاقة، مستقلة عما يحدث في بقية العالم، ويحقق نموا اقتصاديا قياسيا في وقت واحد.
الجميع في ذهول بسبب قفزات الصين وتوثباتها. لم يعد الخبر الرئيسي تلك النادلة الذكية التي تقدم أطباق الطعام للزبائن في مطعم في بكين، أو روبوتاً ينظف الطريق أو ينجح في اختبار دخول كلية الطب، أو يؤنس الأطفال. هذا لم يكن غير فتات على المائدة التكنولوجية الكبرى التي يخطط لها «التنين الأحمر». وما يرقبه العالم بعيون مفتوحة، هو تحول الصين بعد سنتين مقبلتين، إلى دولة كل تعاملات البشر فيها ستتم عبر الإنترنت وتخضع للذكاء الصناعي، وتصير نموذجا لما ستكون عليه حياة البشرية في المستقبل. هذا أيضا ليس بمفاجئ، لكن ما سيصنع الفرق عن كل ما يمكن أن يحدث في مكان آخر، أن الدولة المركزية هنا، هي التي تحكم قبضتها على المعلومات، والحركات والهمسات، وقادرة على أن تحصي الأنفاس. وما تمنعه القوانين في أوروبا وأميركا، وتكافح من أجله المنظمات هناك لحفظ الخصوصية الفردية للمواطن، عكسه هو ما يصنع القوة الصينية، ويجعل هذا البلد الضخم يتقدم بخطى واثقة صوب المستقبل. بمعنى آخر، إن الاستقلال الوطني سيتمفصل مع نظام ذكي، عصي على الاختراق. وستصبح الصين هي المهدد لمن تصدر إليهم منتجاتها الإلكترونية، دون أن يجد هؤلاء ثغرات للتسلل إليها.
معلوم أن الشركات الأميركية للتواصل الاجتماعي لا موطئ قدم لها في الفضاء الصيني، وأن المواطنين مجبرون على استخدام شبكاتهم الوطنية، والتسوق من متاجرهم «أونلاين» مثل «علي بابا» الذي بات أهم من «أمازون» والبحث عبر «بيدو» وليس «غوغل». أما «وي شات» فهو شبكة تسمح بممارسة مختلف الأنشطة من سماع الموسيقى إلى حضور الأفلام والتواصل والشراء والقراءة. وثمة تطبيقات كثيرة تقدم خدمات لحياة كاملة، صارت مدخل الصينيين إلى الحياة الأرضية.
وكل تطبيق أميركي ممنوع، له مقابل صيني، تستطيع الدولة مراقبته وتحليل معلوماته. وبما أن مرافق الحياة، من صحة إلى تعليم، وتأمين وشراء وبيع، حتى الدخول إلى البيت، بدأت تخضع للذكاء واللمس والتشفير، فإن جمع المعلومات عن الأشخاص وتحليلها بات من بديهيات ما تملكه الدولة المركزية. ومن الآن حتى عام 2020 فإن المائتي مليون كاميرا المزروعة في الشوارع ستصبح سبعمائة مليون، ولن يتمكن فأر من ارتكاب خطأ وينجو من العقاب.
ونشرت مجلة «نوفل أوبزرفتور» الفرنسية ملفا مثيرا حول قناعة الصينيين بما تقوم به دولتهم، وعدم رفضهم لهذه الرقابة التي يخضعون لها، بل يعتبرونها مستحسنة ومرغوبة طالما أنها تسهّل معاشهم. وفي مقابلة أجرتها المجلة مع شبان «ما بعد ثورة تيانامين» رأت أنه لا أحد يريد أن يعرف ما يحدث في «تايوان» أو الـ«تيبت»، إنما هو جيل يريد أن يستهلك ويسمع الموسيقى، ويعمل ويسافر ويستأنس بالحياة الرغدة التي يعرفون أنها غدا ستكون أفضل من اليوم، وهذا يكفيهم.
الخطة الصينية للذكاء الصناعي، من حيث المعلن، تهدف إلى دعم «مشروع صنع في الصين 2025» وزيادة المنتجات، وتوفير اليد العاملة لصالح توجيه الطاقات الإنسانية للتفكير والإبداع، بدل هدرها في أعمال آلية، لكنها لم تُخفِ أبداً البعد الأمني المبتغى.
وتعرف أميركا أن السخاء المبذول على الذكاء الاصطناعي بمئات مليارات الدولارات، سيجعل الصين رائدة أولى، خاصة أن 60 في المائة من الاستثمارات العالمية هي صينية، وبالتالي من يصرف ستكون له ملكية المعلومات والتفوق في المعرفة.
بعض المدن الصينية مثل تشينغدو، دخلت بالفعل في العصر التفاعلي شبه الكامل. والصينيون جل ما يعنيهم هي النتائج التي تطير بهم في مقدمة الأمم. والثلاثمائة والعشرون مليونيرا صينياً، كما صغار مواطنيهم، لا يتبرمون من دولة أبوية، تستخدم سياسة العصا والجزرة، وتضع اللوائح السوداء والرمادية، وتلزم كل من يتخطى حدوده بأنواع من العقوبات، يخضع لها صغيرهم كما كبيرهم. والمسؤول الأول في شركة «هواوي» للجوالات الشهيرة، بات يتكلم كما كان يفعل ستيف جوبز يوم أطلق هاتفه الجوال الأول، عن تغيير العالم، وجعل الكوكب مكانا مختلفاً.
المخاوف من الصين تتزايد والقدرة على اللجم تتضاءل، وتختلف المواقف بين معجب بالنموذج، ومستغرب من زواج هجين ناجح إلى هذا الحد بين الاشتراكية والرأسمالية، وعناق عجيب بين التكنولوجيا والديكتاتورية.
تنظر الهند باستغراب إلى جارتها التي تماثلها في الكتلة البشرية، وتتمسك بديمقراطيتها. ولا يتردد ساستها بالقول إنهم يدركون أن نموهم الذي يكاد يناهز نمو الصين الاقتصادي لا يأتي بالنتائج السحرية نفسها، ولا يجلب الازدهار عينه، لكن عزاءهم دائما أنهم لا يريدون أن يكونوا تنينا قويا صلباً، يزمجر فيرعب من حوله، لأنه كلما عظمت القوة وغلظت القبضة زادت الهشاشة وتشعبت المخاوف. وهم أيضا لا يحبون تشبيه أنفسهم بالنمور الآسيوية على طريقة هونغ كونغ وسنغافورة. يفضل الهنود أن يكون مسارهم القومي كالفيل، طويلا، ثقيلا، بطيئا، لكنه قوي ثابت ومستمر، لا يخشى التعثر المفاجئ. بين الهند والصين، نموذجان متقاربان بقدر ما هما مختلفان، والسنوات المقبلة ستحمل إجابات، لا يستطيع أحد اليوم -مهما وسعت مداركه- التنبؤ بها.
نقلا عن الشرق الاوسط اللندنية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع