توقيت القاهرة المحلي 14:21:48 آخر تحديث
  مصر اليوم -

سلاح الطعام

  مصر اليوم -

سلاح الطعام

بقلم - سوسن الأبطح

يتذكّر العجوز الناجي من وباء «الطاعون القرمزي» الذي قضى على الحضارة البشرية وأعادها إلى زمن الغابات والوحشية، بسبب جرثومة قاتلة، كيف كان وجه الحياة قبل ستين عاماً، ويروي ذلك لأطفال هم من بين القلة الذين نجا وإياهم، وعادوا جميعهم إلى لبس الجلود والتسلح بالقوس والنشّاب.

تدور أحداث رواية الأديب الأميركي جاك لندن هذه في عام 2073 بولاية كاليفورنيا، حيث الأستاذ الجامعي العجوز لا يزال يتذكر ويروي بأسى مأساة وباء حدث عام 2013، وكيف كانت حال البشر قبلها، قارئاً أهم ملامح تلك الحضارة المنقرضة. يقول العجوز متأملاً حوله، وقد عاد الكوكب إلى حالته البدائية: «أفكر، أحياناً، أن الإنجاز الأروع الذي حققته حضارتنا الضخمة هو الطعام، ووفرته التي لا تصدق، وتنوعه غير المحدود ومذاقه الرائع. آه يا أحفادي! لقد كانت الحياة حياة بحق تلك الأيام، حين كان لدينا تلك الأشياء الرائعة لنأكلها».

يكرر الراوي العجوز في «الطاعون القرمزي» أهمية وفرة الطعام لتحقيق الازدهار، وأن لا تطور من دون هذا الترف اللذيذ، ويرى أنه بالرغم من كل الأمراض التي ظهرت، كان عدد البشر يزداد، لا لشيء إلا بسبب سهولة الحصول على الأكل.

ونحن ننعم بالأضاحي ومآدب العيد، ونرى الإعلانات المرفهة في الدول الغربية، تعرض ما لذ وطاب من منتوجات ومبتكرات غذائية، نظن أن هذه الوفرة حقيقية ودائمة.

ومع أن جاك لندن كتب روايته العظيمة هذه عام 1912، أي قبل الحربين العالميتين الأولى والثانية، وحتى قبل الإنفلونزا الإسبانية القاتلة بست سنوات، فإنه بحدسه الرهيب تمكن من التقاط، أهمية دور الغذاء في تشكيل الحضارات وتحصين أمن بني البشر، وكيف أن الأزمات والأوبئة يمكنها أن تمحو إنجازات كبرى عن بكرة أبيها، وتجعلها كأن لم تكن.

فقد ظن الإنسان مع نهايات القرن الماضي أنه قضى على الجوع بمهارته وذكائه، كما ظنّ أيضاً أنه بدأ ينجح في محو الأمية وإلى الأبد، لكن مع بدء الأزمة المالية عام 2018 وحتى سنوات قبلها، بدا أن تأمين الغذاء لمليارات أهل الأرض مهمة تزداد صعوبة. وتفاقمت المشكلات مع جائحة «كوفيد»، وتعطلت سلاسل الإمدادات، وتكررت الإغلاقات، ثم جاءت الحرب الأوكرانية - الروسية، لتذكّر الجميع أن التقهقر أسرع مما يظنون، وأن تأمين الغذاء ليس دائماً بديهياً. ومع أن الأغذية قلّت وارتفعت أسعارها في كل مكان، فإن الخطورة الكبرى هي في القارة الأفريقية بسبب شح الصادرات الأوكرانية بعد الحرب؛ ما أثر على مليار أفريقي، بالإضافة إلى التأثير الأوسع على التجارة العالمية.

وتتهم روسيا أوروبا بأنها تستولي على الكمية الكبرى من الأغذية التي تسمح بتوريدها من أوكرانيا، حارمة منها الأفارقة، وتهدد بوقف تصدير الحبوب من الموانئ الأوكرانية. ودهش العالم وهو يكتشف أن روسيا تؤمّن للبشر ربع حاجتهم من القمح، بعد مهاجمتها أوكرانيا، وأن معاقبتها وخنق صادراتها، هو مجاعة، وتعذيب وإفقار لكثير من الأبرياء. وفهمت روسيا مكانتها وقوة سلاحها الغذائي فعززته، وهي آخذة في تقويته مدركة أن الأغذية ستكون غداً أحد اكثر عناصر الحروب فاعلية وقسوة على أعدائها.

توجه أصابع الاتهام إلى روسيا اليوم، وتتهم بحرمان الفقراء من سلة الغذاء الأوكرانية، لكنها لم تبدأ هذه الحرب المقيتة، وتعددت الحروب الغربية التي لجأت إلى حرمان الشعوب من الغذاء للضغط على حكوماتهم، تحت مسميات مختلفة، من إيران إلى العراق وكوبا وحتى فنزويلا. وكلما قلّت الأغذية سهلت عملية التلاعب بها، وتحويلها إلى أسلحة متعددة الاستخدامات.

فكما في رواية «الطاعون القرمزي» يتضاءل الغذاء، في العالم، بسبب الكوارث المتلاحقة والتغيرات السريعة، ويصبح من يقبض على القمح والذرة ودوار الشمس، كمن يملك السيطرة على أبرز النقاط الاستراتيجية على الجبهة.

لم تتسيد أميركا العالم لمجرد أن لها الجيش الأقوى والاقتصاد الأكثر عافية وحيوية، بل لأنها كذلك المصدر الأول للمنتوجات الزراعية، وصاحبة الإمكانات الأوفر غذائياً، لكنها منذ ما يقارب السنوات الثلاث، تراجعت عن صدارتها كمصدرة للأطعمة تاركة هذا المكان للصين الدولة التي عانت عقوداً طويلة من الفاقة والمجاعات. ففي القرن العشرين وحده قضى ملايين الصينيين جوعاً وعوزاً، وهو ما يجعل تقدمها الصفوف في مجال الزراعة وتأمين حاجات السكان أمثولة تشبه المعجزة، وإلى جانبها تتقدم أوروبا والبرازيل، والمشكلات متعددة في أميركا من بينها نقص المياه، ما يشي بأنها لن تعود إلى مرتبتها الأولى قريباً.

وصارت الصين رائدة في إنتاج الأغذية ومتفوقة على غيرها، لأنها تمكنت بالفعل من تحقيق اكتفاء ذاتي استقلالي خالص؛ إذ بات من المعروف أن دولة تسعى لتحقيق أمنها الغذائي، عليها أن تكون قادرة على إنتاج البذور والأسمدة والأوعية البلاستيكية، والجرارات والمبيدات، وكل ما يلزم، ليصبح الطعام في الطبق، وهو ما تعجز عنه لغاية اللحظة غالبية الدول، على علمها بضرورة أن تقترب وبسرعة من الهدف.

في زيارة له لأحد حقول القمح في مارس (آذار) الماضي، قال الرئيس الصيني شي جينبينغ إن بلاده يجب أن تحافظ على مستوى 120 مليون هكتار، و33 مليون أخرى لا بد من إضافتها؛ فالسلة الغذائية للصينيين يجب أن تكون محلية بالكامل، الأمر الذي باتت الصين من الدول القليلة التي نجحت بإنجازه.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

سلاح الطعام سلاح الطعام



GMT 20:18 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

مؤتمر الصحفيين السادس.. خطوة للأمام

GMT 14:59 2024 الثلاثاء ,03 أيلول / سبتمبر

مشاهد مُستَفِزَّة.. “راكبينكم راكبينكم..”!

GMT 06:36 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

… لأي قائمة يسارية ديمقراطية نصوت ؟!

GMT 06:23 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

ماذا قال يمامة؟

GMT 06:16 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

مشكلة إصلاح التعليم

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 22:50 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

بشرى تكشف عن أمنيتها للعام الجديد
  مصر اليوم - بشرى تكشف عن أمنيتها للعام الجديد

GMT 10:34 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

الوجهات السياحية الأكثر زيارة خلال عام 2024

GMT 10:38 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

إطلالات أنيقة وراقية لكيت ميدلتون باللون الأحمر

GMT 10:52 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

بيلا حديد في إطلالات عصرية وجذّابة بالدينم

GMT 09:38 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

نصائح سهلة للتخلص من الدهون خلال فصل الشتاء

GMT 21:45 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

فجر السعيد تفتح النار على نهى نبيل بعد لقائها مع نوال

GMT 08:46 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

مبابي يكشف سبب منعه من الاستمرار مع سان جيرمان

GMT 20:43 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

الأمير هاري يتحدث عن وراثة أبنائه جين الشعر الأحمر

GMT 20:11 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

تكريم توم كروز بأعلى وسام مدني من البحرية الأميركية

GMT 09:56 2021 الجمعة ,01 كانون الثاني / يناير

أعد النظر في طريقة تعاطيك مع الزملاء في العمل

GMT 12:18 2016 الإثنين ,12 كانون الأول / ديسمبر

الروح والحب والإخلاص " ربنا يسعدكم "

GMT 23:59 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

اتفاق مبدئي على إعادة تشكيل السلطة التنفيذية في ليبيا

GMT 18:11 2024 الخميس ,05 أيلول / سبتمبر

3 تحديات تنتظر الزمالك قبل غلق الميركاتو الصيفي

GMT 07:33 2019 الثلاثاء ,12 تشرين الثاني / نوفمبر

"سيسيه يؤكد رفضت عروضا من أجل البقاء مع "الاتحاد

GMT 05:59 2024 الأحد ,14 تموز / يوليو

محمد النني يقترب من الدوري السعودي
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon