عندما تكرّم المخرج السينمائي والمسرحي منجد صبري الشريف، بتزويدي بجانب، من أرشيف والده الذي جمعه بعناية لمساعدتي في الكتابة، ربما لم يكن يعرف أنه يشرع عندي نافذة الفضول ليس فقط لجهة دور صبري الشريف المغمور مع أنه هائل وحاسم، في صناعة الفن اللبناني الحديث عموماً، ومسيرة الأخوين رحباني بشكل خاص، بل حرّضني على التساؤل عن مدى التساهل، كي لا نقول النفاق المتمادي، في كتابة تاريخ الفن. الهالة الرحبانية حجبت الرغبة في البحث، واكتفى الكتّاب بتناقل الشائع، غير آبهين بالنبش عن الحقائق.
الإذاعات هي التي كانت صنعت مجد الفنانين، قبل أن يشيع التلفزيون. وتيرة إعادة أغنياتهم على الأثير، هي التي حددت من يشتهر منهم، ومن يبقى في العدم. إيمان صبري الشريف المدير الفني لـ«إذاعة الشرق الأدنى» والمؤسس للعديد من الإذاعات العربية بموهبة فيروز والأخوين رحباني، دفع بالثلاثي سريعاً إلى الصفوف الأولى، رغم صيحات الاعتراض التي تعالت على هذا الصنف الغنائي. ثمة من وصف صوت فيروز الذي نراه ملائكياً اليوم بأنه يشبه «المواء». وشنّ محمد رسلان حملة على «ألحان غريبة، مسروقة، أُدخلت عليها بعض الكلمات العربية، وليس المقصود بها سوى أن تجرفنا مع التيار الغربي لننسى عاداتنا». ويؤكد هذا الكاتب بأن الحملة ضد الرحبانيين لن تتوقف حتى «يكفّان عن الأغاني المبتذلة والألحان الغربية المعربة؛ لأن وجودها في مجتمعنا كوجود السمّ الزعاف في غذائنا».
تمويل «إذاعة الشرق الأدنى» بريطانياً، آثار الريبة. لكن هناك نقد أيضاً لـ«إذاعة لبنان» التي تبالغ في بث أغاني فيروز، حتى كتب أحدهم «هل نسيتم أن الأغنية التي تذاع ثلاث مرات في الأسبوع ينفر منها المستمع طوال الشهر؟... فهل يجوز بعد هذا أن يُتهَم المستمعون بفقدهم حاسة الذوق؟».
رغم كثافة المقالات الهجومية ضد النمط الرحباني الجديد، استمر البث على حاله، وصعد نجم فيروز.
البث الكثيف من قِبل «الشرق الأدنى» جعل إذاعات أخرى مثل الإذاعة السورية تقبِل بشهية، على التعاون مع عاصي وتشتري ألحانه، ويطلب إليه مديرها أحمد عسّة ألا يبوح أمام الملحنين الآخرين بعدد الأغنيات التي يشتريها منه، كي لا يثير نقمتهم.
الفنان في حاجة إلى الإعلام، وصبري الشريف على رأس أهم الإذاعات في تلك المرحلة كان له اليد الطولى في إطلاق العديد بينهم فيروز والرحباني، ولكن أيضاً عبد الحليم الحافظ.
تلحظ من مقابلات الشريف الصحافية، أنه كان بالفعل العمود الرابع في القلعة الرحبانية. كانت له الرؤية بعيدة المدى، لما يريد أن تصل إليه هذه المؤسسة الفنية. هو المنظّر، المفكّر والمنفّذ، يتحدث بوضوح لا تشوبه ضبابية، عن رؤيته المستقبلية. فقد آمن بضرورة العودة إلى الفولكلور والعمل عليه وإطلاقه محدَّثاً ونقله من مرحلة الغناء العفوي مع البزق إلى الغناء بصوت منحوت بصحبة فرقة محترفة. عندما يتحدث الشريف عن اللقاء الأول مع عاصي الرحباني، يشرح أنهما منذ تلك اللحظة، اتفقا على السير معاً، وأن لا شيء يفرقهما أبداً.
كانت لصبري الشريف، رؤية للمسرح الغنائي العربي، الذي يعتقد هو أن شرارته الأولى انطلقت من أغنيات سيد درويش التصويرية، ثم وجد في لبنان بذرة صالحة وفنانين قادرين على صياغة أعمال مشتركة متعة للبصر والسمع.
من حق القارئ أن يعرف خلفيات الظواهر الفنية مهما كانت كبيرة وعظيمة. فمما يكتبه حليم الرومي عن اكتشافه موهبة فيروز، أنه قدمها لزميله عاصي الرحباني، لتشترك معه في البرامج الغنائية الراقصة. يقول الرومي إن عاصي «قال بالحرف الواحد: إن هذا الصوت لا يصلح للأغاني الراقصة، ويصلح للأغاني الخفيفة فقط». أخطأ عاصي، وأثبتت فيروز بحساسيتها التي لا تضاهى أنها فنانة العصر. قالت فيروز ذات يوم، بمجرد أن تُفتح الستارة «أحس بشعر رأسي يقف، أحس بالوحدة، بصراخ داخلي يطلب نجدتي وإنقاذي». كلما اقترب موعد الحفلات «أشعر بتكسّر في جسمي، وأرى منامات مزعجة، وأبقى على هذه الحالة العصبية، حتى ساعة الصفر، عند فتح الستار، وبدء الغناء». لكنها هي وعلى خشبة المسرح لشدة ما تشد قبضة يدها أثناء الغناء، تبرد وتصبح ككرة ثلج، وأصابعها تتشنج.
هكذا كانت فيروز تتكلم للصحافة، فمن أسكتها، ولماذا صارت تغني ولا تتكلم. يقال إن هذا هو الدور الذي رسمه لها الرحبانيان، لكن متى؟ في أي سنة؟ وما هو رأيها الشخصي في ذلك؟
مائة عام على مولد عاصي الرحباني. كان يليق بهذا العبقري الفذ، بهذه المناسبة، أن يماط اللثام عن تفاصيل بقيت تقال سراً، عن حميمات تجعل هؤلاء الذين صنعوا أفراحنا أكثر إنسانية. يتحدث منجد الشريف عن كرم عاصي الذي لا يضاهى، عن عاداته البسيطة في الأكل، عن حبه للناس، عن استقباله للأحبة على الغداء رافضاً أن يأكل وحده حتى لو نادى ناطور العمارة ليشاركه لقمته. يتحدث الرجل عن والده وعلاقته المبكرة بالرحبانية، وبعد أن أصبح شريكاً رسمياً عام 1959 ولغاية 1973، عن الحقوق بعد رحيل هؤلاء العظام. ويقول «اقترحت بما أن والدي يملك ثلث أعمال هذه الفترة، أن أشتري كل هذا الإرث، لكنهم رفضوا، واقترحت أن يشتروا هم حصة صبري الشريف فرفضوا أيضاً».
هكذا يبدو التأريخ للفن ليس فقط للكشف عما حدث في الماضي، بل لرؤية أوضح لما يمكن أن نفعل في المستقبل.