بقلم - سوسن الأبطح
سواء كان تقرير «منتدى الاقتصاد العالمي» دقيقاً أم تقريبياً، فتصنيفه لبنان الرابع عالمياً في نوعية تعليم الرياضيات والعلوم بعد سنغافورة التي أتت في المرتبة الأولى ثم فنلندا وسويسرا، متقدماً على الصين والهند، هو مؤشر يدعو للتفاؤل وعليه يفترض أن يبنى.
كل العلوم مفيدة، وتبقى الرياضيات عصب العصر والعمود الفقري للبناء التكنولوجي، والهندسي وبها تنتقل الأمم إلى الذكاء الصناعي والرقميات وتؤسس للمستقبل. ولما كان لبنان تاسعاً في مهارة إدارة المدارس أيضاً، والثامن عشر في نوعية نظام التعليم، فهاتان نقطتان إضافيتان إيجابيتان وسط تسونامي الأخبار المحبطة. هذا هو الجانب المضيء من الحكاية التي لا تجد خواتيمها السعيدة، إلا خارج لبنان، الوطن العاجز عن استيعاب طاقاته الأذكى والأكثر فاعلية وقدرة على الابتكار. فما يقارب 40 في المائة من خريجي العلوم والرياضيات الذين نتحدث عنهم، وبينهم عباقرة بالفعل، وأسماء بعضهم باتت معروفة، لا يعثرون على الفرصة التي تناسب طموحاتهم، ويضطرون إلى الاستجابة لإغراءات النداءات الخارجية. وهي بالنسبة لهم متوافرة بسهولة، ومعظمهم كما بات معلوماً، لا يفكرون في العودة، مع غياب أي تبدل في مناخات العمل.
بمناسبة هذا التقرير المفرح الموجع، ظهرت دراسات اقتصادية تبين أن الأسر المتوسطة تصرف نصف مدخولها المتواضع على التعليم، إن لم يكن أكثر. وأن المواطنين اللبنانيين رغم ضيق ذات اليد، يدفعون بطيب خاطر ثلاثة مليارات دولار سنوياً للمدارس والجامعات الخاصة مقابل تعليم فلذات أكبادهم. وهذه تكلفة نحو ثلث الطلاب فقط؛ لأن الغالبية الساحقة لا تزال تتعلم في «الجامعة اللبنانية» شبه المجانية. مبالغ خيالية بالنسبة لبلد صغير بحجم لبنان، تنفق من أجل بناء رأس مال بشري، هو كنز تتجاوز قيمته اليوم، كل ثروة يمكن أن تحلم بها دولة. بالنتيجة تنوء البلاد بعبء 20 ألف طبيب و55 ألف مهندس، بينما تحلم دول أخرى مثل أميركا وكندا وألمانيا، بوجود هؤلاء بينهم، ولا تتوانى عن اصطيادهم. تذهب مليارات الأسر الكادحة وتضحياتها هباء، وتكبر المديونية، ولا تجد الدولة وسيلة لاحتضان متعلميها وفي متناولها صندوق وطني جاهز تأبى أن تستثمره، وتذهب تبحث عن سند خارجي. ما لا يقوله التقرير بوضوح، أن السلطة السياسية، بكل فئاتها، تمارس الجريمة عينها، حين تخص أفشل محاسيبها بالرتب الرفيعة، والمعاشات السخية، ولا تعنيها المهارات ولا الكفاءات، ولا تترك لهم سوى الفتات. ما لا يقوله التقرير أيضاً، أن الأحزاب الستة أو السبعة التي تتقاسم الجبنة أغلقت كل أفق أمام الشباب، وسدت كل باب في وجه من يأبى الذل ويرفض الوقوف متسولاً عملاً على باب الزعيم.
يقال إن المشكلة في التنسيق بين الجامعات وأرباب العمل، أو إن اختصاصات الخريجين لا تتناسب والمطلوب في سوق العمل. لكن أي سوق فقيرة وشحيحة هذه التي لا تحتاج إلا إلى طهاة ومحاسبين وسواقين وعمال بناء ودهانين وما إلى ذلك، ثم حين تلتفت إلى هؤلاء تجد قسماً منهم بلا أشغال. ربع اللبنانيين يبحثون عن وظيفة، هذا حسب المعلن، وفي الواقع الأرقام أكبر، والمداخيل الصغيرة جداً، ليست عملاً يؤمّن الكرامة.
التذرع بأن النخبة تكبر والمهنيون يتضاءلون أكثر مما يجب، هو أيضاً مسؤولية الدولة التي تعجز عن توفير التعليم المهني المرموق، والمدخول المناسب الذي يفترض أن يتبع. وإذا كان الحل المثالي، هو لفظ النخبة على اعتبارها حملاً ثقيلاً، لا حل لها سوى الترحيل، فهذا من عجائب ما يمكن أن يحدث في القرن الحادي والعشرين.
حين شعرت الهند بأن أميركا تسطو على مهندسيها، رفعت رواتبهم، وابتكرت ما لا يحصى من الإغراءات لتبقي عليهم في وطنهم. لهذا؛ لا غرابة أن ترتفع نسبة النمو في الهند إلى ستة وسبعة في المائة لتصبح صاحبة خامس اقتصاد في العالم متجاوزة بريطانيا وفرنسا، ويبقى النمو في لبنان يزحف كسلحفاة مرتجفة ولا يرتفع عن اثنين في المائة، دون أن يرف لأولي الأمر جفن.
وبدلاً من الترويج للبترول والإعلان عما سيحمل للبنانيين من نعم، يوم يفلحون في استخراجه، الأولى الالتفات إلى الكنز البشري الهارب يومياً، كنزف يصعب وقفه. وما سينفق على تكبير مطار بيروت بعد أن صار يختنق بثلثي اللبنانيين الذين فرّوا من الجحيم، يستحسن التخطيط لتقليل عدد المسافرين والحفاظ عليهم كمقيمين منتجين.
لبنان بلد يشيخ، شبابه يسافر، وكباره يتحسرون. تلك المدارس التي تسجل أفضل النتائج في العلوم لا يزال مستوى وصول الإنترنت إليها من بين الأسوأ في العالم، ومع ذلك يتبين أنه بلد يضم عدداً وافراً من الأفراد القادرين على التجدد بحسب التقرير أيضاً، مع أنهم محرومون حتى من الكهرباء وأحياناً الماء، هذا ليس بهامشي.
وكي لا نبقى في النقيق، فتقرير المنتدى، ببنوده التفصيلية الواضحة كالشمس، يصلح لأن تضعه الحكومة الموعودة نصب عينيها، وتقرأ جيداً معلوماته الذهبية. فكل ما يتعلق بمبادرات الناس المساكين يسير على خير حال، أما الشق الرسمي ذو الصلة بالسياسيين الذين يحكمون منذ عقود، تبعاً لمصالحهم وأهوائهم، فهذا هو الفشل الذريع، الذي يستوجب عمل كل جهد مدني، سلمي، لإيقافه.
نقلا عن الشرق الاوسط اللندنية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع