توقيت القاهرة المحلي 00:27:15 آخر تحديث
  مصر اليوم -

الكنز الهارب

  مصر اليوم -

الكنز الهارب

بقلم - سوسن الأبطح

سواء كان تقرير «منتدى الاقتصاد العالمي» دقيقاً أم تقريبياً، فتصنيفه لبنان الرابع عالمياً في نوعية تعليم الرياضيات والعلوم بعد سنغافورة التي أتت في المرتبة الأولى ثم فنلندا وسويسرا، متقدماً على الصين والهند، هو مؤشر يدعو للتفاؤل وعليه يفترض أن يبنى.

كل العلوم مفيدة، وتبقى الرياضيات عصب العصر والعمود الفقري للبناء التكنولوجي، والهندسي وبها تنتقل الأمم إلى الذكاء الصناعي والرقميات وتؤسس للمستقبل. ولما كان لبنان تاسعاً في مهارة إدارة المدارس أيضاً، والثامن عشر في نوعية نظام التعليم، فهاتان نقطتان إضافيتان إيجابيتان وسط تسونامي الأخبار المحبطة. هذا هو الجانب المضيء من الحكاية التي لا تجد خواتيمها السعيدة، إلا خارج لبنان، الوطن العاجز عن استيعاب طاقاته الأذكى والأكثر فاعلية وقدرة على الابتكار. فما يقارب 40 في المائة من خريجي العلوم والرياضيات الذين نتحدث عنهم، وبينهم عباقرة بالفعل، وأسماء بعضهم باتت معروفة، لا يعثرون على الفرصة التي تناسب طموحاتهم، ويضطرون إلى الاستجابة لإغراءات النداءات الخارجية. وهي بالنسبة لهم متوافرة بسهولة، ومعظمهم كما بات معلوماً، لا يفكرون في العودة، مع غياب أي تبدل في مناخات العمل.

بمناسبة هذا التقرير المفرح الموجع، ظهرت دراسات اقتصادية تبين أن الأسر المتوسطة تصرف نصف مدخولها المتواضع على التعليم، إن لم يكن أكثر. وأن المواطنين اللبنانيين رغم ضيق ذات اليد، يدفعون بطيب خاطر ثلاثة مليارات دولار سنوياً للمدارس والجامعات الخاصة مقابل تعليم فلذات أكبادهم. وهذه تكلفة نحو ثلث الطلاب فقط؛ لأن الغالبية الساحقة لا تزال تتعلم في «الجامعة اللبنانية» شبه المجانية. مبالغ خيالية بالنسبة لبلد صغير بحجم لبنان، تنفق من أجل بناء رأس مال بشري، هو كنز تتجاوز قيمته اليوم، كل ثروة يمكن أن تحلم بها دولة. بالنتيجة تنوء البلاد بعبء 20 ألف طبيب و55 ألف مهندس، بينما تحلم دول أخرى مثل أميركا وكندا وألمانيا، بوجود هؤلاء بينهم، ولا تتوانى عن اصطيادهم. تذهب مليارات الأسر الكادحة وتضحياتها هباء، وتكبر المديونية، ولا تجد الدولة وسيلة لاحتضان متعلميها وفي متناولها صندوق وطني جاهز تأبى أن تستثمره، وتذهب تبحث عن سند خارجي. ما لا يقوله التقرير بوضوح، أن السلطة السياسية، بكل فئاتها، تمارس الجريمة عينها، حين تخص أفشل محاسيبها بالرتب الرفيعة، والمعاشات السخية، ولا تعنيها المهارات ولا الكفاءات، ولا تترك لهم سوى الفتات. ما لا يقوله التقرير أيضاً، أن الأحزاب الستة أو السبعة التي تتقاسم الجبنة أغلقت كل أفق أمام الشباب، وسدت كل باب في وجه من يأبى الذل ويرفض الوقوف متسولاً عملاً على باب الزعيم.

يقال إن المشكلة في التنسيق بين الجامعات وأرباب العمل، أو إن اختصاصات الخريجين لا تتناسب والمطلوب في سوق العمل. لكن أي سوق فقيرة وشحيحة هذه التي لا تحتاج إلا إلى طهاة ومحاسبين وسواقين وعمال بناء ودهانين وما إلى ذلك، ثم حين تلتفت إلى هؤلاء تجد قسماً منهم بلا أشغال. ربع اللبنانيين يبحثون عن وظيفة، هذا حسب المعلن، وفي الواقع الأرقام أكبر، والمداخيل الصغيرة جداً، ليست عملاً يؤمّن الكرامة.

التذرع بأن النخبة تكبر والمهنيون يتضاءلون أكثر مما يجب، هو أيضاً مسؤولية الدولة التي تعجز عن توفير التعليم المهني المرموق، والمدخول المناسب الذي يفترض أن يتبع. وإذا كان الحل المثالي، هو لفظ النخبة على اعتبارها حملاً ثقيلاً، لا حل لها سوى الترحيل، فهذا من عجائب ما يمكن أن يحدث في القرن الحادي والعشرين.

حين شعرت الهند بأن أميركا تسطو على مهندسيها، رفعت رواتبهم، وابتكرت ما لا يحصى من الإغراءات لتبقي عليهم في وطنهم. لهذا؛ لا غرابة أن ترتفع نسبة النمو في الهند إلى ستة وسبعة في المائة لتصبح صاحبة خامس اقتصاد في العالم متجاوزة بريطانيا وفرنسا، ويبقى النمو في لبنان يزحف كسلحفاة مرتجفة ولا يرتفع عن اثنين في المائة، دون أن يرف لأولي الأمر جفن.

وبدلاً من الترويج للبترول والإعلان عما سيحمل للبنانيين من نعم، يوم يفلحون في استخراجه، الأولى الالتفات إلى الكنز البشري الهارب يومياً، كنزف يصعب وقفه. وما سينفق على تكبير مطار بيروت بعد أن صار يختنق بثلثي اللبنانيين الذين فرّوا من الجحيم، يستحسن التخطيط لتقليل عدد المسافرين والحفاظ عليهم كمقيمين منتجين.

لبنان بلد يشيخ، شبابه يسافر، وكباره يتحسرون. تلك المدارس التي تسجل أفضل النتائج في العلوم لا يزال مستوى وصول الإنترنت إليها من بين الأسوأ في العالم، ومع ذلك يتبين أنه بلد يضم عدداً وافراً من الأفراد القادرين على التجدد بحسب التقرير أيضاً، مع أنهم محرومون حتى من الكهرباء وأحياناً الماء، هذا ليس بهامشي.

وكي لا نبقى في النقيق، فتقرير المنتدى، ببنوده التفصيلية الواضحة كالشمس، يصلح لأن تضعه الحكومة الموعودة نصب عينيها، وتقرأ جيداً معلوماته الذهبية. فكل ما يتعلق بمبادرات الناس المساكين يسير على خير حال، أما الشق الرسمي ذو الصلة بالسياسيين الذين يحكمون منذ عقود، تبعاً لمصالحهم وأهوائهم، فهذا هو الفشل الذريع، الذي يستوجب عمل كل جهد مدني، سلمي، لإيقافه.

نقلا عن الشرق الاوسط اللندنية

المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الكنز الهارب الكنز الهارب



GMT 20:22 2023 الخميس ,19 تشرين الأول / أكتوبر

مليونية ضد التهجير

GMT 03:11 2023 الأربعاء ,21 حزيران / يونيو

الخالدون أم العظماء

GMT 04:43 2023 الإثنين ,19 حزيران / يونيو

كل سنة وأنت طيب يا بابا

GMT 04:15 2023 الأحد ,18 حزيران / يونيو

الزعامة والعقاب... في وستمنستر

GMT 03:32 2023 الأحد ,18 حزيران / يونيو

حدوتة مصرية فى «جدة»

إلهام شاهين تتألق بإطلالة فرعونية مستوحاه من فستان الكاهنة "كاروماما"

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 20:45 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

مسلسل جديد يجمع حسن الرداد وإيمي سمير غانم في رمضان 2025
  مصر اليوم - مسلسل جديد يجمع حسن الرداد وإيمي سمير غانم في رمضان 2025

GMT 08:28 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

غوتيريش يدعو مجموعة العشرين لبذل جهود قيادية لإنجاح كوب 29
  مصر اليوم - غوتيريش يدعو مجموعة العشرين لبذل جهود قيادية لإنجاح كوب 29

GMT 14:08 2018 السبت ,21 إبريل / نيسان

اختاري كوشات أفراح مبتكرة في موسم صيف 2018

GMT 01:35 2018 الأربعاء ,04 إبريل / نيسان

عبد الله السعيد يفجر المشاكل بين كوبر وأبوريدة

GMT 00:43 2018 الإثنين ,29 كانون الثاني / يناير

تشيلسي الإنجليزي يستقرّ على بديل أنطونيو كونتي

GMT 10:07 2018 السبت ,27 كانون الثاني / يناير

عفو رئاسي من السيسي عن متهمة في قضية شهيرة

GMT 12:49 2018 الإثنين ,22 كانون الثاني / يناير

النني ينعش خزينة الأهلي ب81 ألف جنيه استرليني

GMT 01:58 2017 الأحد ,03 كانون الأول / ديسمبر

صورة الفنانة شادية قبل وفاتها تبكي محبيها

GMT 08:06 2017 الثلاثاء ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

هند صبري سعيدة بجائزة فاتن حمامة وتبرز معادلة نجاحها الصعبة

GMT 23:51 2016 الأربعاء ,08 حزيران / يونيو

فوائد العناق بين الزوجين
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon