بقلم: سوسن الأبطح
مؤثر للغاية حفل الفنانة نانسي عجرم «أمل بلا حدود» الذي بثّته مباشرة عبر يوتيوب بمناسبة عيد الفطر، وتوجهت به إلى العالم العربي أجمع، آملة له الوحدة والتضامن، وتبرعت بريعه إلى جمعية «فرح العطاء». حفل بلا جمهور في زمن الحجْر، على سطح عمارة في بيروت، بالحد الأدنى من الديكورات ذات الطابع المنزلي، غنّت خلاله وحدها بملابس بسيطة، مع القليل من الموسيقيين، وكثير جداً من الحيوية في الأداء، والإبداع في الإخراج الفني من سمير سرياني، وبتقنيات لافتة. مبادرة صغيرة، تحولت في ظرف ساعات، إلى الأكثر مشاهدة وتعليقاً واهتماماً من الجمهور. قد لا تكون من محبي هذا النوع الخفيف من الغناء، لكن حسن اختيار لحظة الغروب، ومكان التصوير، وكيفية إدارة الكاميرا، والتنقل بين مشهديات العاصمة اللبنانية من فوق، واللقطات الحية، مضافةً إليها مقاطع من فيديوهات قديمة، كلها خلطة، جعلت من العمل متعة وفرحة لمن حشروا في منازلهم.
لا شيء أكثر من الفنون رفّه عن المكتئبين، وأنقذ مساجين الوباء من سوداويتهم. من فن الطبخ إلى الرقص والموسيقى وزيارة المتاحف ومشاهدة الأفلام وسماع الموسيقى. أصبح الفنانون رفاق أهل الحجْر وسندهم، وللمفارقة هم كذلك أكثر المتضررين من وباء «كورونا» وسيكونون آخر المتعافين من ذيوله. وإذا كان الاتحاد الأوروبي مفتّح العينين، واعي الذهن لأولوية إنقاذ مئات آلاف العاملين في المتاحف ودور النشر والمسارح، ليحفظ للناس توازنهم النفسي، وللبلاد عمقها الجمالي، فالحال في بلد مثل لبنان مختلف تماماً، مع أن الحاجة واحدة.
تمكن لبنان بفعل المبادرات الذاتية وحدها، أن يحلق عالياً في نتاجاته الفنية. لم يسبق للدولة أن كانت لها رؤية لما يفترض أن تكون عليه الثقافة في البلاد. وزارة الثقافة حضور شبحي لطيف، يُشكر من باب اللياقة في الافتتاحات الرسمية.
عند المنعطفات، تعيد الدول رسم سياساتها الثقافية كجزء من رؤيتها لنفسها وهويتها. في لبنان، هذا الجانب ليس من ضمن خطة الحكومة، ولا بقية الأحزاب التي تدّعي أن لها ثاقب نظر لمستقبل البلاد.
غياب فادح عن قطاع رسم صورة لبنان في كل ذهن. فمن لم يزر بلاد الأرز يعرفها من أغنيات فيروز، وكتابات جبران، وقصائد سعيد عقل. ومن لم يعايش الحرب الأهلية قرأها في رواية لهدى بركات، أو شاهدها في أحد أفلام مارون بغدادي.
اليوم المخاوف كبيرة، مع أن الفنانين اللبنانيين عملوا دائماً باللحم الحي. القيامة تحتاج تكاتفاً استثنائياً، مخيّلة جهنمية، لأن المقدرات المادية تقارب الصفر. التعويل على إرادة فولاذية. لم يتوقف الفنانون خلال الحظر عن الإنتاج، كلٌ كان يعمل من منزله. التشكيليون واكبوا بلوحاتهم على «إنستغرام». المغنون أطلقوا حناجرهم، أحيوا حفلات على تطبيق «زوم»، الموسيقيون عزفوا مقطوعاتهم، وأفلام صُورت في المنازل والشوارع الفارغة، ووجدت مكانها على وسائل التواصل. أليسار كركلا نشرت تسجيلين راقصين، أحدهما للمحترفين، وآخر للتلامذة في مدرستها. حتى فيروز المحتجبة عادة أطلت مرتلة مبتهلة لمساندة المتألمين.
بانزياح الوباء، سيواجه الفنانون واقعاً جديداً. حتى معرض الكتاب ألغي هذه السنة، وهو أبو المعارض العربية كلها، ورائدها، لا بسبب الجائحة، بل بفعل الصدمة المالية. مؤلم، لأنه قد يكون المكان الوحيد الذي يعرض فيه الناشرون من دون أن يسألوا أو يراقبوا.
قد لا يكتشف في لبنان نفط، أو تنتعش سياحة. لعل المسارح تتأخر في فتح أبوابها، والمتاحف لا تجد روادها على المدى المنظور، لكن مصممي الأزياء وصنّاع المسلسلات والأفلام سيسبقون الجميع. الفنون البصرية هي الأكثر لمعاناً. ما أنتجه التشكيليون في بيروت منذ انطلاق الثورة، من أعمال مذهلة على الجدران، تنبئ بفورة تعبيرية، لم نكن نراها في الغاليريات، التي انحصرت معروضاتها بالفن الرصين. شوارع بيروت مكان مثالي، اليوم، لرؤية ما يمكن أن تتفجر عنه مخيّلة الشباب، وهو حقاً واعد وبهيج. الفنون تسافر، وهذه ميزتها. جمعية «إمباكت ليبانون» في لندن، تشرح إحدى شاباتها أن «الرسوم والفيديوهات التي نشرت عن الثورة عبر وسائل التواصل هي التي أنزلتنا إلى الشارع»، وربما هي التي دفعت المغتربين إلى التظاهر في العالم. اعترافاً بالجميل لهؤلاء الرسامين، وتقديراً لعملهم، أطلقت الجمعية موقعاً سمته «دكانة» يعرض عليه الفنانون اللبنانيون أعمالهم ليشتريها المغتربون وكل من يرغب، بعد أن تعذر إقامة معرض لهم في لندن بسبب «كورونا». ما هي إلا مبادرة صغيرة، تماماً كمبادرة نانسي المتواضعة. الشبان لا يعرف بعضهم بعضاً، مجرد متطوعين يتواصلون على شبكة الإنترنت، ويرون أنهم مدينون للفن اللبناني بالتقائهم وجمع شملهم، وبنقل صورة ما يحدث في بلادهم بأمانة وصدق.
ليس التعويل على السياسيين الذين فقدوا البوصلة، أو المصرفيين وقد أعمتهم الأنانية. كل الرجاء معلق على الفنانين والمبتكرين، على الجيل اليانع من المبدعين الذين لا يعبأون بالتصريحات العقيمة والخطابات المسمومة. هؤلاء لم يتوقفوا عن الحلم. هكذا كانوا في الحروب، ولا يزالون يحملون هموم أهلهم في كلماتهم وقصصهم وألحانهم. ولولا الروائيون اللبنانيون الذين قصوا حكايات الحرب بإنسانية ترق لها القلوب وتأنف من بشاعتها النفوس، لما أمكن للجيل الجديد أن يرفض العنف ويعادي الخراب.
الأزمات الكبرى على قسوتها، هي دائماً مفصل تتفتق عنه صيغ إبداعية جديدة وخلّاقة. المدارس الفنية والأدبية وُلدت من رحم حروب ومحن. ولبنان لن يشذّ عن القاعدة. الفقر لا يقتل المخيّلة، بل يحررها، لأنه لم يعد لديها ما تخسره.