بقلم - طارق الشناوي
عندما سألوا الموسيقار محمود الشريف عن تحليله لأسباب هزيمة 67؟ أجابهم الحشيش وأم كلثوم، هذا الرأى أدلى به فى زمن الرئيس جمال عبدالناصر وفى عز سطوة سيدة الغناء العربى، كان الشريف يرى أن سهرة أم كلثوم الغنائية التى كانت تقدمها كل خميس فى أول شهور الشتاء، تُحدث نوعا من الإلهاء للمواطنين، وكأنها حشيش، وسمحت الصحافة بالنشر برغم وجود الرقيب.
قبلها فى عام 64 وبعد أن أقيم حفل عيد الثورة، غنى عبدالحليم (بلدى يا بلدى) بحضور الرئيس جمال عبدالناصر، حرص عبدالحليم أن يؤكد على المسرح أن الشاعر مرسى جميل عزيز استلهم الكلمات من خطاباته، والتى يقول فى أحد مقاطعها: (لو تخدم باشتراكية/ وبذمة وبهمة قوية/ أنا زى ما قال ريسنا/ راح اشيلك جوه عنيه/ وإن خدت المركز جاه/ ولعبت اللعب إياه/ ولا همك غير مصلحتك/ وظلمت فى خلق الله/ ح نزمر لك كده أهه/ ونطبلك كده أهه)، نشرت جريدة (الأخبار) بقلم جليل البندارى نقدا لاذعا بسبب (ح نزمر لك كده أهه) وجده تعبيرا لا يليق بالثورة ولا بحضور الرئيس، وشاركه الرأى الكاتب الكبير الرصين سعيد سنبل.من المنطقى أن الدولة راجعت كلمات الأغنية، فكيف تسمح بالهجوم؟، كل شىء كانت ترصده وقتها عيون النظام، وحفل عيد الثورة تحديدا يعتبر الذروة، المعروف أنه عام 66 عندما قرر الموسيقار كمال الطويل أن ينهى علاقته الفنية بعبدالحليم، لأنه بدأ يتدخل فى الألحان، واعتذر عن تلحين رائعة صلاح جاهين (صورة صورة) وتوجه للسفر، بحجة أنه مش فى المزاج، وفى المطار وجد أنه على قائمة الممنوعين، واكتشف أن شمس بدران وزير الدفاع (الحربية) وقتها، عندما علم أنه لن يلحن، أجبره على البقاء والتلحين، وقال له بعد نجاح الأغنية: (أمال لو كنت فى المزاج كنت عملت إيه).
فكيف قدمت (بلدى يا بلدى) فى وجود كل تلك العيون؟، هناك مساحة من الانتقاد سمحت بها الدولة قبل 67 وزادت قطعا بعد 67، ويبدو أن هناك صوتين فى أغنية (بلدى يا بلدى)، الأول استحسن تعبير (ح نزمر لك كده أهه)، والثانى تحفظ، وصلت النيران إلى عبدالحليم ولهذا تمسك بموقفه، بل وقال إنه يتحمل المسؤولية كاملة عن الكلمات، لأنها تعبر عن قناعته أيضا.فى كل الأحوال، لم تحتل (بلدى يا بلدى) مكانة مميزة بين الأغانى الوطنية التى امتلكت القدرة على الصمود مع الزمن، إلا أن الفصل الأخير لهذه الأغنية جاء بمثابة انقلاب درامى.فى رمضان من عام 68 عندما قرر الرئيس عبدالناصر التخفيف عن الشعب، منح الضوء الأخضر للمسلسلات الفكاهية، وهكذا قرروا إنتاج (شنبو فى المصيدة)، وفوجئوا بأن شعبان جاء 29 يوما، ولم يكن كمال الطويل قد انتهى من تلحين (التتر) الغنائى، قال لى مخرج المسلسل يوسف حجازى إنه استدعى فريق العمل للقاء فى الاستوديو، تأخر الطويل قليلا، وعندما لحق بهم وجد الشاعر فتحى قورة وضع كلمات تقطر سخرية على لحن الطويل (بلدى يا بلدى)، الذى صار(شنبو يا شنبو/ والله ووقعت يا شنبو)، غناء فؤاد المهندس وشويكار ويوسف وهبى.ولم يسأل أحد كيف أن أغنية تتباهى بالوطن ومستوحاة من كلمات عبدالناصر تصبح مجالا للسخرية، إنه الهامش السحرى الساخر الذى يجب الحفاظ عليه، حتى تصبح الدنيا دنيا!!.