بقلم : طارق الشناوي
هناك كراهية من بعض الأوروبيين ضد المهاجرين أو اللاجئين أيًا ما كان المسمى، نتابع العديد من تلك الظواهر وآخرها ما حدث فعلا فى هاناو بألمانيا قبل ساعات من انطلاق مهرجان (برلين) ولا رابطة قطعا بين الحدثين سوى أنها دليل ملموس على أن هناك كراهية مضمرة مع المختلف فى الجنس واللون والدين، تعبر عن نفسها بين الحين والآخر بتلك الأحداث الدموية.
جريمة شديدة العنصرية كما وصفتها المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل استهدفت عددًا من هؤلاء البسطاء، والحقيقة أن التوجه الألمانى يبدو من الناحية السياسية مبديًا قدرًا من التعاطف مع هؤلاء المهمشين، وحتى اختيارات مهرجان (برلين) للأفلام فى جزء منها تشى بذلك، وهو ما يمكن أن نراه فى واحد من أهم وأطول الأفلام التى عرضت ضمن فعاليات تلك الدورة (برلين ألكسندر بلازا) والمخرج ينتمى أيضا لأصول أفغانية برهان قربانى، الفيلم ألمانى مجرى مشترك.
المهرجان أعلن، مساء أمس جوائزه، وسط حالة وسط حالة معلنة من عدم الرضا عن مستوى المهرجان التى تتمثل أولا فى اختيارات الأفلام. مهرجان (برلين) هو الأكثر حميمية بين كل المهرجانات العالمية الكبرى، والأكثر دفئًا رغم برودة الجو، وتساقط الأمطار بغزارة تلك الدورة التى كان من المفترض أن نُطلق عليها تعريف الاستثنائية لأنها تحمل رقم (70) حيث إنها تواكبت مع تغيير فى قيادة المهرجان، من أجل إضافة فكر مغاير لما استقرت عليه الفعاليات قرابة عقدين من الزمان، إلا أن الأمر على أرض الواقع لم يسفر عن دورة متميزة، خاصة فيما هو متوفر من الأفلام، برغم أن الإقبال الجماهيرى على شبابيك ومنافذ التوزيع، قد زاد معدله عن المعتاد خاصة فى الأسبوع الأول، تحدت الجماهير مخاطر (كورونا) والتى أراها ستشكل العدو الأكبر الذى سيواجه كل التجمعات السينمائية الضخمة القادمة، والتى تحتاج إلى قدر من الضبط والدقة سواء فى استقبال الضيوف القادمين من مختلف أنحاء العالم أو الجمهور المحلى الذى سيقبل على أفلام المهرجان، بينما تلك الفيروسات و(كورونا) طبعا على رأسها تنتشر بسرعة فائقة أساسا بين التجمعات، وعلى هذا يبدو الأمر يحمل بداخله قدرا من التناقض، بين دعوة المهرجان لضرورة إقبال الناس وبين الخوف من مخاطر تلك الدعوة، وأول اختبار سينمائى عربى يواجه هذا الخطر فى دوراته الأولى هو (البحر الأحمر) الذى تحتضنه المملكة العربية السعودية، وستقام الفعاليات فى مدينة (جدة)، وإدارة المهرجان بقيادة المخرج محمود الصباغ تضع كل التفاصيل المتعلقة بتأمين الضيوف وضمان ألا يشكل التجمع أى مخاطر، الأمر قطعًا ليس سهلًا تخطيه، ولكن بوضع قواعد منظمة وتفصيلية ستتمكن إدارة المهرجان من تجاوز الخطر والحفاظ على روح المهرجان السينمائى الذى لا ينتعش إلا تحت مظلة إقبال الناس.
الجمهور الألمانى تحدى الفيروس وتحدى أيضا تراجع مستوى الأفلام الذى سيجعل الإدارة فى مواجهة ومقارنة حتمية مع مهرجان (كان) فى دورته التى ستعقد بعد 70 يوما فقط.
فى الأيام الأخيرة من المهرجان تردد بقوة اسم فيلم (برلين الكسندر بلازا) تأليف ألفريد دوبلن هذه الرواية التى ظهرت فى العشرينيات من القرن الماضى وكانت هدفًا لمعالجات درامية متعددة لأنها تتناول الإنسان عندما يفقد كل شىء اسمه وهويته ويصبح عليه بالتبعية أن يلقى أيضا من النافذة شرفه وكرامته إذا أراد الاستمرار، فى أرض ليست أرضه وثقافة مضادة له، بطل الفيلم مهاجر أسود من غرب أفريقيا، إلا أن دائرة الفيلم تتسع لكل الأطياف والأجناس.
زمن الفيلم ثلاث ساعات دفع المهرجان لإجراء تغيير جذرى، على مواعيد العرض التى تبدأ عادة التاسعة بتوقيت ألمانيا ليصبح الثامنة و15 دقيقة لمواجهة الزمن، وأيضا حتى لا يتم الإخلال بمواعيد عروض باقى الأفلام تباعا، الصالة امتلأت قبل الموعد، هناك إحساس ما سبق هذا الفيلم الألمانى المجرى المشترك سيحصد الجائزة الأهم (الدب الذهبى) كشريط أو الفضى للممثل الأسود من أصول إفريقية (فلكت بانجو) فى دور فرانس قبل أن يغيره إلى فرانز والبطل الموازى له أيضا مرشح بقوة لنفس الجائزة (ألبرخت سوش) أدرى ببراعة دور راينهولد مريض بالسادية وحيث يتلذذ طوال الأحداث بتعذيب الآخرين وعلاقاته الجنسية كلها تطرف وشذوذ وعنف.
الفيلم مقسم من خلال وجهة نظر بطلنا الأسود إلى خمس مراحل، تروى خلالها علاقته بالعصابة المتشعبة والمتجذرة داخل ألمانيا وتحديدا فى العاصمة برلين، حيث يصبح التورط هو الحل الوحيد، للبطل الأسود حتى يستمر بدون أوراق رسمية، ويتم عقاب البطل بقطع يده ليس لأنه سرق مثلهم ولكن لكونه رفض السرقة وهذا العقاب القاسى من تدبير راينهولد ـ الذى لا يكف عن ممارسة الشر- وهكذا نراه قرب النهاية يحرق رئيس العصابة عندما تنقلب به السيارة بدلا من إنقاذه وبهدوء شديد تعمد المخرج أفغانى الجذور، ألمانى الجنسية، برهان قربانى فى السيناريو الذى ساهم فى كتابته أو السرد السينمائى التركيز عليه، وهو ممارسة العنف باعتباره أحد طقوس الحياة المعتادة.
لا شىء من الممكن أن يقدم بلا جذور البطل الأسود لديه إحساس بالذنب منذ هجرته خارج حدود بلاده لجنوب أوروبا ثم انتقاله إلى ألمانيا ولديه إحساس مرضى بأنه المسؤول عن امرأة لم يستطع إنقاذها من الغرق، تزوره دائما تلك الكوابيس، ولكن القدر يمنحه الفتاة البيضاء الجميلة إيفا التى أدت دورها أنابيلا ماندنج، فتاة ليل تبيع جسدها وتنتقل بمشاعرها من الشرير راينهولد إلى فرانز، وقررت ترك حياة الليل وصارت تحمل فى أحشائها جنينًا منه، بينما هو يريد أن يهجر أعمال الشر والخروج عن القانون، وفى ظل هذا الصراع يقتل راينهولد زوجته ويدخل فرانز السجن وتأتى هدية السماء عندما يخرج من السجن فيجد ابنته فى انتظاره فهو يستحق أن تحنو عليه يد القدر بعد أن واجه قسوة العصابة الألمانية، هل تأكدت أمس التوقعات واقتنص (برلين ألكسندر بلازا) دب برلين!