بقلم : طارق الشناوي
لا تريد 2020 أن ترحل إلا وهى تخطف منا أجمل وأنقى ما فينا.. وهكذا، قبل يومين قرأنا خبر رحيل المخرج السورى الكبير حاتم على، كان مقبلًا على الحياة، لا يتنفس سوى الفن، فى كل مرة ألتقيه ألمح هذا الفيض من الطاقة الإيجابية التى ترسلها لى عيناه، مشغول بفكرة أو يلهث وراء أخرى.إنه أبن (الجولان) السورى المحتل، الذى تفتحت عيناه على الدنيا عام 62 لسنوات قلائل قبل أن تغتصبها إسرائيل فى 67، وتريدها الآن أن تصبح جزءًا من إسرائيل، وليست أرضًا محتلة ستعود حتمًا لأصحابها.
«الممثل الوسيم والجان القادم».. هكذا كانوا يصفونه بعد تخرجه فى معهد المسرح بسوريا، قسم تمثيل وإخراج، وذلك منتصف الثمانينيات، كان يمارس أيضا الكتابة بكل أنماطها، درامية وأدبية، يعشق التمثيل والإخراج السينمائى والتليفزيونى، الممثل بداخله لم يُخفت تواجده مع الزمن، إلا أنه أحيانا كان يعبر عن نفسه من خلال توجيهه للممثل.
وهكذا، تواجد فى أعمال مثل: (الكابوس) و(الخشخاش) و(قصة حب عادية)، سواء من إخراجه أو لغيره.
آخر مرة رأيت فيها حاتم فى مهرجان (كان) 2018 قبل نحو عام ونصف العام، ولم أتعجب، لأننى أعرف أنه حريص على متابعة كل ما هو جديد، كنت أعتقد أنه سيعرض مسلسل (أهو ده اللى صار) فى رمضان، حيث أكدت ذلك وقتها أكثر من فضائية، إلا أنه أخبرنى أنه لن يلحق برمضان لمشكلات تسويقية، وسيعرض بعد انتهاء (الماراثون) الرمضانى، قلت له هذا الخبر ستكتشف أنه لصالحك، وبالفعل حقق المسلسل الذى كتبه عبدالرحيم كمال ولعبت بطولته روبى نجاحا ضخما وساهم فى خلق موسم مواز فى رمضان قادر على استقطاب أعمال جيدة أخرى تحقق كثافة مشاهدة، تحمس بعده عدد كبير من صناع الدراما لعرض أعمالهم فى باقى شهور العام التى كانت تعانى من قحط درامى شديد.
تعرفت على حاتم لأول مرة فى مهرجان دمشق منذ مطلع التسعينيات، وفى سوريا تجد دائما الصُّحبة الحلوة من الأصدقاء تحيط بك، ورغم ذلك لم نقترب إلا فقط 2007 عند عرض مسلسل (الملك فاروق) للكاتبة لميس جابر، لاقى المسلسل مشاكل رقابية دامت أكثر من خمسة عشر عاما، وتعددت أسماء المرشحين لإخراجه حتى وصلنا لمحطة حاتم على، كان دائما الترشيح الأول للبطولة فى دور فاروق هو يحيى الفخرانى، إلا أن الفخرانى كعادته امتلك الجرأة ليرى نفسه وقد تجاوز المرحلة العمرية التى من الممكن أن يصدقه فيها الناس لو لعب الدور، واستقر حاتم على إسناد (الملك) لابن بلده تيم حسن، كان تيم نجم سورى معروف فى الشام والخليج، إلا أن الجمهور المصرى لا يعرف عادة سوى من ينطق اللهجة المصرية، وراهن حاتم على تيم وسط غضب الكثير من الممثلين الشباب فى مصر، كل منهم كان يرى أنه الأكفأ لمجرد أنه يحمل جواز سفر مصريًا.. النتيجة النهائية أثبتت أن المخرج اختار حقًا الفنان الأكثر ملاءمة للدور، قدم تيم إحساس الملك قبل ملامحه، وأتقن بنسبة مقبولة جدًا أداء اللهجة، وصدقناه جميعًا.. حصد المسلسل فى مهرجان القاهرة للإذاعة والتليفزيون عام 2007 تقريبا كل الجوائز: أفضل مسلسل ومخرج وكاتب وبطل وموسيقى، وهو كالعادة ما أثار فى الكواليس وقبل إعلان الجوائز رسميًا ضربات تحت الحزام ومحاولات مضنية لتغيير النتيجة، وتصديت لتلك الحرب الخفية وكتبت مقالًا فى (صوت الأمة) عنوانه (تزوير فى جوائز رسمية)، ومن بعدها اقتربنا أكثر على المستوى الشخصى.
أرى دائمًا أن الفن الجميل لا يمكن أن يخضع لتلك النظرة (الشوفونية) التى نراها بين الحين والآخر تعلن عن نفسها بفجاجة.
قدم حاتم حالة مغايرة لما تعودت عليه الدراما، رسخ ملامح مختلفة لقانون آخر فى التكنيك البصرى، وبدأت الشاشة المصرية الصغيرة تنتعش من خلال رؤية جيل جديد، فتح لهم حاتم الباب، أحدث تغييرًا فى تكنيك الإخراج التليفزيونى، قرر يحيى بعد أن فاته محطة (فاروق) لفارق الزمن أن يكمل معه المشوار فى مسلسل (محمد على)، كتبته أيضا لميس جابر.. أحيانًا كانت تتردد الأخبار عن تقديمه كفيلم، وظل حاتم يحلم به، فى الحالتين كانت لحية يحيى الفخرانى تؤكد اقتراب التصوير، وتعاقدت شركة إنتاج مع كل الأطراف، ثم تبدد كل شىء وتأجل العمل الفنى.. مؤخرًا، صارت لحية (محمد على) هى لحية (الملك لير) بعد أن أعاد الفخرانى تقديمها على المسرح.
قدم حاتم قبل ثمانى سنوات مسلسل فارق جدا فى تاريخنا الدرامى إنه (الفاروق عمر) عن حياة سيدنا عمر بن الخطاب.. ولأول مرة نرى الخلفاء مجسدين: على بن أبى طالب وأبو بكر الصديق وعثمان بن عفان.. نقلة نوعية استدعت أن نقرأ أسماء عديدة من كبار مشايخنا يعلنون الموافقة والمباركة، التجسيد لا يتعارض مع الدين فى شىء، بينما الأزهر الشريف من خلال علمائه الأفاضل ظل ولا يزال على موقفه الرافض تجسيد حتى صحابة رسول الله.. وبالطبع أثناء التنفيذ، واجه حاتم الكثير من المعوقات الدينية، ولكنه فى النهاية قدم مسلسلًا فارقًا، سيفتح الباب غدًا أمام أعمال أخرى، لا تستسلم للتابوهات التى تحول دون التجسيد.
عاش حاتم على منذ الثورة السورية 2011 وهو غير مرضىّ عنه من السلطة السورية، بل أوقفوا عضويته مؤخرا من نقابة الفنانين بحجة أنه لم يسدد الاشتراك، بينما الحقيقة أنه أيد حق الشعب السورى فى انتزاع حريته من الديكتاتور، ولهذا لم يتمكن من زيارة أهله طوال السنوات الماضية.. وأخيرًا بعد ساعات من الرحيل، وافقت السلطات السورية على أن يوارى جسده غدًا التراب السورى!.