بقلم : طارق الشناوي
لا تتيسر كثيرًا حالة البوح بين الفنان والصحفى إلا إذا كان الظرف مواتيًا، وجاء (قرطاج) وتكريم الفنان الكبير عبدالعزيز مخيون بأرفع جوائز المهرجان (التانيت الذهبى) فرصة لكى تتجدد لقاءاتنا بعد سنوات وسنوات من الابتعاد، لم نتواصل خلالها لأسباب خارجة عن إرادتنا.
باح لى مخيون كصديق بالكثير، وعدد منها قررت أن أشارككم فيها، لأنها صالحة للتداول على دائرة أوسع، أتوقف أمام واحدة، وهى أنه كان المرشح الأول لبطولة مسلسل (القاهرة والناس) إخراج محمد فاضل، والذى عُرضت أولى حلقاته مباشرة بعد نكسة 67، حكى مخيون أن عميد معهد المسرح نبيل الألفى كان يحرص على دعوة كبار المخرجين والنقاد لمشاهدة مسرحيات الطلبة في سنواتهم النهائية حتى يمنحهم الفرصة للتعامل المباشر مع السوق، وأن محمد فاضل شاهده ورشحه لبطولة (القاهرة والناس)، بل سلم له ثلاث حلقات كتبها عاصم توفيق ومصطفى كامل، شعر مخيون أن باب السماء استجاب لدعائه، وكان موعدهم في اليوم التالى، واصطحب معه الحلقات التي دوّن بها عددًا من الملاحظات أو التساؤلات المتعلقة بالشخصية، إلا أنه قبل أن يدخل إلى مكتبه لمح ابن دفعته بالمعهد نور الشريف جالسًا مع فاضل، فلم يشأ أن يقتحم عليهما الجلسة وانتظر نصف ساعة، وعزّ عليه أن يسأل فاضل هل ترشيحه لا يزال قائما؟، ولهذا قرر أن يعيد إليه الحلقات وينتظر رد الفعل، فاحتفظ بها فاضل ووصلت الرسالة.
نعم.. يحدث كثيرا، ولا أتصور سوى أن القدر يرسم لنا كل التفاصيل، ويقينًا لم يأخذ نور، والذى كان وقتها منافسًا لمخيون كطلبة بالمعهد، دوره.. فاضل اختار من وجهة نظره ما يراه الأفضل بمقياس الزمن، ومع الأيام وجد أيضا كبار المخرجين، أمثال حسن الإمام، في نور وميض النجومية المبكرة، بينما مخيون (جيناته) الإبداعية تنمو بالعمق، ينضج على نار هادئة، ينتقل من دور إلى آخر حتى لو لم يتحقق كنجم شباك إلا أنه حظى بمكانة أراها خاصة جدا، وهى الثقة والدفء.
يصدق الناس مخيون في اختياراته الفنية، ويترك فيضًا من الارتياح على مشاعرهم مهما ضاقت المساحة الدرامية المتاحة، وآخرها رمضان الماضى مسلسل (البرنس) مجرد حلقتين أو ثلاث، إلا أنه ظل حاضرا طوال الـ27 حلقة التالية.. مخيون وجه مشرّف لنا خارج الحدود، والتحية واجبة للمخرج رضا الباهى رئيس المهرجان عندما اختاره للتكريم خارج الصندوق في أعرق مهرجان سينمائى عربى.
قبل نهاية فعاليات المهرجان، جاء اللقاء مع سفيرنا المصرى الجديد في تونس، إيهاب فهمى، مفعمًا بكل الدفء والحب، أكمل إيهاب مشوار سفير مصر الصديق العزيز نبيل حبشى، الذي كان حريصا أيضا على إقامة سهرة للوفد المصرى، شاركنا كالعادة عدد من الأصدقاء من تونس الحبيبة، وكانت الجلسة أيضًا استثنائية.. أكد إيهاب أنه سيعمل على تعميق اللقاءات الثقافية والفنية بين القاهرة وتونس.
طوال رحلتى التي تصل إلى ثلاثة عقود من الزمان مع المهرجانات العربية والعالمية أحاول أن أرى الأفلام المصرية قبل السفر، وغالبًا أشاهدها مرة أخرى مع الجمهور، إلا أننى منذ عامين أبحث دون جدوى عن فيلم تسجيلى طويل (أمل) للمخرج محمد صيام.
الفيلم حاصل على (التانيت الذهبى) لقرطاج في الأفلام الوثائقية الطويلة، مع الأسف فاتتنى رؤيته قبل عامين، وحاولت وقتها في العرض الثانى والأخير اللحاق به، فاكتشفت أنه كامل العدد.
في رحلة الاستعادة التي حرص عليها (قرطاج) وهو يقدم لنا رؤية بانورامية لأفلام حصدت (التانيت) أو كان لها تواجد وحميمية في الوجدان العربى والإفريقى، مصر لم تنل كثيرا (التانيت الذهبى) سوى مع فيلم (ميكروفون) لأحمد عبدالله عام 2010، كما أننا في 72 حصل يوسف شاهين على (التانيت) عن مجمل أعماله وليس عن فيلم (الاختيار) كما يتم تداول المعلومة خطأً، أي أننا في واقع الأمر أخذنا الذهبية مرة واحدة.. حتى ذهبية مخرجنا المصرى الكبير توفيق صالح بفيلم (المخدوعون) تنسب للسينما السورية منتجة الفيلم، وليس المصرية، لأن جنسية العمل الفنى توثق علميًا لجهة الإنتاج وليس المخرج.
فيلم (أمل) أحد أهم أفلامنا التي حصلنا من خلالها على التانيت الذهبى 2018، كان من المفترض أن يعرض قبل عامين رسميا في مهرجان القاهرة بعد ترشيح كل من يوسف شريف رزق الله ومحمد حفظى وأحمد شوقى له، تم التواصل مع المخرج وتقديم الاعتذار لأسباب رقابية كما أوضح له الثلاثة، الفيلم يتناول حياة الطفلة التي تقف على أعتاب المراهقة «أمل»، تروى بعينيها وتعبيرها الجسدى قبل الكلمات التي تنطقها، وأيضا من خلال توثيق المخرج محمد صيام لها ثورتى 25 و30، لا يمكن قطعًا أن تقول وأنت مطمئن إن الطفلة وحيدة أبويها، لديها وعى سياسى دفعها للإيمان بالثورة، فقط تواجدت في الشارع، الشريط تعرض لبعض تجاوزات الشرطة في 25 يناير، وهو ما اعترفت به الأجهزة، فما أسباب الاعتراض الرقابى؟!.. استطاع صيام، مخرجنا الشاب، أن يحافظ على عفوية أمل التي استمد منها اسم الفيلم بكل الظلال التي يحملها، كما أنه أتقن الحفاظ على تصاعد واقعى للأحداث من خلال علاقة أمل بأبيها الذي جاء بها في وقت اقتراب ساعة المغادرة، هي تستقبل الحياة وهو يشعر أنه يمضى سريعًا لمحطة النهاية، ولكنه لم يغب أبدًا عن الذاكرة.
فيلم سينمائى ممتع بكل تفاصيله، لأنه يصل للوجدان، ومخرج موهوب حقًا يستحق أن نحتفى به وبفيلمه الاستثنائى الذي عُرض في دورة استثنائية!