بقلم : طارق الشناوي
لم تكن مفاجأة، بل كان هناك توقع لتكرار نفس الموقف، وأقصد به حصول فيلم (لا يوجد شر) للمخرج المعارض الإيرانى محمد رسولوف على جائزة (الدب الذهبى)، كأفضل فيلم فى المسابقة الرئيسية للدورة رقم (70) التى شارك فيها 18 فيلمًا، العديد منها كان لديه ما يستحق أن يؤهله للمنافسة، ولكن ما يملكه فيلم رسولوف من سينما، بعيدًا عن أى معايير سياسية بشهادة لجنة التحكيم، منحه تلك المكانة.
ما أشبه الليلة بالبارحة، والتى عايشتها قبل نحو أربع سنوات، عندما حصد المخرج الإيرانى الكبير جعفر بناهى أيضا جائزة (الدب الذهبى) عن فيلمه (تاكسى)، وهى الجائزة التى تقف على قمة استحقاقات (برلين)، وكان الفيلم قد تعرض لنفس السيناريو الذى شاهدناه مع تلميذه رسولوف، وشارك الفيلم أيضا بالمهرجان دون حضور المخرج، لأنهم فى طهران يسحبون جواز السفر، أثناء المحاكمة، وكالعادة يسبق عروض هذه الأفلام اهتمام إعلامى، ويتحول الخبر الفنى إلى قضية سياسية، تحتل المقدمة فى كل الوسائط الإعلامية وتسرق الكاميرا، حتى من فعاليات المهرجان الأخرى مهما بلغت أهميتها.
وسط متابعة عالمية لحكاية مخرج تناصبه دولته العداء، بينما يتمتع جماهيريًا بدرجة حب وتقدير، وهذا ما لامسته عن قرب عندما ذهبت إلى طهران قبل سبع سنوات، ناهيك عن تقدير العالم كله لإبداع هؤلاء المخرجين واحتفاظهم بمكانة خاصة عند رجل الشارع، بناهى الممنوع ليس فقط من السفر، ولكن من ممارسة المهنة، حيث يلاحقه، قبل سنوات، اتهام جنائى بتشويه سمعة الوطن من خلال الكاميرا التى يحملها وترصد كل ما يجرى من صراعات كامنة، كان فيلم بناهى قائمًا على فكرة رصد عشوائى لأطياف من الشعب الإيرانى من خلال سيارته التى أحالها إلى تاكسى (أجرة)، لتوصيل الزبائن، ويبدأ فى إجراء حوار لكشف ملامح وأحلام وأيضا كوابيس مواطنيه، كان يجمع فى الفيلم بين صدق السينما التسجيلية وحبكة الدراما، وتكرر الأمر مساء أمس الأول، عند إعلان اسم فيلم (لا يوجد شر) للمخرج محمد رسولوف ليحظى بالجائزة الأهم للمهرجان، الفيلم وفقا للحبكة المنشورة فى (الكتالوج) يتناول أربع حكايات للأسرة التى تكتشف أن عائلها يعمل فى تنفيذ أحكام الإعدام، وهو مجرد أداة لتحقيق ذلك لا يهم قطعا الأسباب فهى مختلفة، ولكنه يترك مساحة لخيال المتلقى لكى يضيف هو إذا أراد أبعادًا سياسية، لتحليل تلك النظرة التى توجهها الدولة للمختلف صاحب رؤية ترنو نحو الحرية، الصرامة فى المتابعة، لكل من يخرج ولو قيد أنملة عن ترديد نفس النشيد، حتى لو لم يحمل فى يده أى سلاح، لأنهم يعتبرون أن مجرد الاختلاف سلاح، ويصبح الطريق ممهدًا للإدانة، الفيلم إنتاج مشترك ألمانى- إيرانى، جرى العُرف أن ننسب للفيلم فى هذه الحالة لبلد المخرج، عندما تتعدد الجنسيات المشاركة فى الإنتاج، وتجرى الأحداث داخل بلد صانع العمل، وبعدد من الفنانين والفنيين الذين يحملون نفس الجنسية يصبح من العدالة أن يحمل الفيلم جنسية صانعيه، برغم أن الفيلم من الناحية القانونية من المفروض أن يحمل جنسيات كل البلاد المساهمة فى إنتاجه، المخرج الإيرانى حتى لو تم تصنيفه فى جانب المعارضة، إلا أنه يشبه العديد من المخرجين الكبار فى إيران والذين لا يتمتعون برضاء من الدولة، إلا أنهم يلتزمون بالمعايير الرقابية الصارمة المفروضة على السينمائى هناك، مثل منع العلاقات المباشرة، بين المرأة والرجل، وضرورة ارتداء الحجاب فى كل المشاهد، وعدم الإسراف فى تناول مشاهد العنف أو الدماء، من الواضح أن المخرج يدافع فى فيلمه عن الحرية كقيمة واختيار البطل منوط به تنفيذ أحكام الإعدام تُقدم بداية كخيط لقراءة الفيلم، ويبقى السؤال عن كيفية تقديم هذه الأفلام، وتمكنها من الهروب خارج البلاد، رغم التدقيق والحصار الأمنى، الذى يواجه المخرج المبدع الذى يسعى للتعبير عن نفسه داخل حدود بلاده، وهو ما يفعله على سبيل المثال جعفر بناهى، وتلميذه الذى سار على الدرب وحصد نفس الجائزة محمد رسولوف.
من الجوائز التى أسعدتنى حقًا هى أحسن إخراج، التى نالها المخرج الكورى (الجنوبى) هونج سانج يو بفيلمه (الهاربة)، الخط الدرامى مباشر، ولكنه يدعوك للتأمل.
إنها البساطة الممزوجة بالوهج الإبداعى، وهى قطعًا سلاح المبدع، هادئ جدًا على السطح، بينما يغلى فى الأعماق، كان هذا هو مفتاح المخرج فى تقديم فيلمه الممتع، الذى يتناول سيدة تخرج من منزلها بعد غياب زوجها لتلتقى بثلاث نساء، ومن خلال مواقف كل منهن الشخصية والعاطفية تبدأ فى التحليل العميق لمشاعرها وزاوية رؤيتها للحياة، فهى ترى بالدرجة الأولى نفسها من خلال ردود أفعال الآخرين، وكأنهم قد صاروا مرآة لها، كما أنها مرآة لهن، لنرى النفس البشرية فى تناقضها بين الحب والرغبة، التسامح والانتقام، حتى فى العلاقة مع الحيوانات الأليفة، يحلل المخرج تلك النظرة بين التعاطف والحياد، والغريب فى دار العرض أن حماس الجمهور بلغ ذروته عندما حظى القط- لأول مرة على الشاشة- بتصفيق الجمهور، بعد أن أقنعهم بقدرته التعبيرية على الأداء.
هن على نحو ما هاربات حتى من مواجهة النفس، الرجال نتابعهم فى مرور عابر، وكاشف لحالة تلك الشخصيات، واستحق فعلا المخرج عن جدارة الجائزة، فهو منح فيلمه، إحساس الدفقة الواحدة.
وجائزة أفضل ممثل وبنسبة كبيرة كانت متوقعة، وهو ما أشرت إليه فى رسالة سابقة، لهذا الممثل إيليو جيرمانو عن الفيلم الإيطالى (المخفى جدا)، حيث نجح تماما فى تجسيد دور الفنان التشكيلى غريب الأطوار، وكأنه لا يمثل، وتستطيع أن تُدرك قوة المبدع فى ضبط جرعة الأداء، مع تلك الشخصيات التى تبدو صارخة فى ألوانها وانفعالاتها الخارجية التى هى أشبه بمصيدة للممثل، لو لم يتجاوز ذلك إلى العمق، وهذا هو بالضبط ما نجح فى تحقيقه الممثل الإيطالى فاستحق (الدب الفضى) وعن جدارة!!