الزحام على مهرجان القاهرة فاق كل التوقعات، وهى ظاهرة قطعًا إيجابية وتصب لصالح الإدارة، تدعونا جميعا لكى نتوقف أمام هذا القدر من الجاذبية الذى حققته الأفلام والفعاليات التى شاهدناها فى السنوات الثلاث الأخيرة، والتى طبقا للأرقام الموثقة، أربعة أضعاف ما كان يحدث فى السنوات العشر الأخيرة.
مؤكد فى كل الدنيا يجب أن نترقب الأزمة، وأهم عوامل النجاح لأى مشروع يأتى من توقع حدوث الأزمة، يجب أن يملك صاحب المشروع القدرة على الإلمام بفن إدارة الأزمة، إذا فاته توقعها، مثلًا الإقبال على عدد من الأفلام كان يجب من البداية التحسب له بإقامة عروض خاصة للصحفيين والنقاد فى حفل الساعة العاشرة صباحا، تسبق عرض الفيلم مساء، وربما لم نر ذلك سوى فى فيلم (عنها)، وكان ينبغى أن يطبق فى أفلام عديدة أخرى مثل (غزة مونامور) أو (حظر تجول) أو (أوندين).. وغيرها.
تنبه المهرجان مثلًا قبل ندوة الكاتب الكبير وحيد حامد إلى أن المكان المعد مسبقًا لإقامة الندوة سيضيق بمن فيه، كما أن الزحام على الأبواب سيفسد التكريم.. جاء قرار رئيس المهرجان بنقله إلى المسرح المفتوح، الذى أقيم عليه حفل الافتتاح، لينزع فتيل قنبلة الكارثة قبل حدوثها، وكان قرارًا صائبًا لأن المسرح على اتساعه ضاق بعشاق ومريدى وحيد، والطوابير للذين لم يتمكن المسرح من استيعابهم أكثر من قدرة كل مسارح دار الأوبرا، وهكذا جاء تكريم وحيد حامد بهذا الحشد الجماهيرى الضخم، ومرت الأزمة بسلام، لأن هناك من تحسّب لها، حتى من لم يستطع الدخول، تفهم الموقف بأنه خارج عن إرادة الإدارة.
الإجراءات الاحترازية تطبق بدقة، ومن المؤكد أنها خصمت الكثير من المتعة.. وبات الزحام بدلًا من اعتباره ظاهرة إيجابية صرنا نتحسب له ونعمل له ألف حساب. من البديهى أن يحدث قدر من التوتر بين الجميع ونحن نتعامل مع عامل مؤثر سلبى جدا «الإقبال الجماهيرى»، إلا أنه بعد الجائحة صار هو العدو اللدود، لأنه التربة الصالحة لهذا الوباء، ومن الواضح أن كثرة عدد المصابين بعد مهرجان (الجونة)، رغم شراكة وزارة الصحة بأكثر من 100 من رجال الصحة الشرفاء، دفعت الدولة للتشدد أكثر وأكثر، حتى إن هناك من يتابع أثناء المشاهدة المسافة اللازمة بين المتفرجين ويتأكد من وضع الكمامة، وله الحق فى إيقاف العروض لو وجد مخالفة.
وسيبقى أيضا الحديث الذى كثيرا ما يتردد عن دعوات الافتتاح والختام، وبالطبع هناك أسماء مهم جدا تواجدها من كبار السينمائيين والفنانين، وهو ما نلاحظه مع أول دورة للمهرجان عام 76، أى قبل 44 عاما.. الشكوى من التجاهل، ولا أظنه متعمدا، ولكن الاحتجاج لن يتوقف لأن مصر بتاريخها العميق وبنجومها فى التمثيل والإخراج والتصوير والمونتاج والكتاب وغيرها تدفعنا إلى الفخر، متع الله الجميع بالصحة والعافية.
هذا العام أيضا فقدنا العديد من الكبار مثل محمود يسن وماجدة ونادية لطفى وشويكار ورجاء الجداوى ومحمود رضا والمخرج سمير سيف وحسن حسنى وجورج سيدهم وغيرهم ممن منحونا الكثير، ولا تزال الشاشات تنطق بإبداعهم وهم أحياء يرزقون فى وجداننا، وأعتقد أن إدارة المهرجان حريصة على أن تكرمهم فى حفل الختام، ووضعت ذلك مسبقا فى الحسبان.
ملحوظة: لا أعلن معلومات مؤكدة ولكن أتحدث عن توقعى. هذا العام ستجد لجنة التحكيم أنها فى مأزق بسبب كفاءة لجان الاختيار والبرمجة داخل المهرجان، مجموعة من الموهبين يقودهم حفظى، ويشاركهم فى الاختيار، وتطبق قواعد الديمقراطية بكل تفاصيلها، وتنجح فى برمجة كل هذا العدد الضخم من الأفلام المهمة، بينها الفيلم الرائع الذى شاهدته مساء أمس الأول (جاجارين).
الفيلم فرنسى الجنسية بينما جاجارين روسى، ولا أستبعد أو بالأحرى أعتقد جازمًا أنه لن يخرج خاوى الوفاض مساء الغد عند إعلان الجوائز.
يورى جاجارين رائد الفضاء اخترق حاجز الشيوعية (الاتحاد السوفيتى) سابقا، فهو لا يقيده مكان ولا توجه سياسى، ومنذ عام 61 عندما صعد بسفينته للفضاء حتى رحيله 68، وهو محل تقدير من العالم كله، والغريب أن من صعد للفضاء الخارجى بصاروخ يلقى حتفه وفى نفس الشهر مارس أيضا بعد 7 سنوات فى حادث طائرة هيلكوبتر.
الطيار الروسى الذى صار أيقونة، وزار العديد من دول العالم ومنها مصر، كما أن الكثير من مواليد عام 61 أطلقوا عليهم اسم يورى جاجارين، وهو اسمه كاملا، وهكذا يخترق الحب والتقدير كل (التابوهات).
الفيلم يقدم فى البداية مشهدا توثيقيا لرائد الفضاء الروسى وهو يضع حجر الأساس لهذا المنتجع الفرنسى الذى حمل اسم (جاجارين) كنوع من الاعتراف بإنجاز هذا الرجل، وكما جاء فى تعليق الفيلم أن الحزب الشيوعى عندما تولى الحكم فى فرنسا قرر دعوة جاجارين لوضع حجر الأساس للمبنى الضخم وأيضا للحديقة المجاورة له.
قطعًا فى تلك السنوات التى أعقبت الحرب العالمية الثانية وخاصة فى الستينيات، كانت الدول تتشدد فى الاعتراف بأى إنجاز، إلا إذا كان التوجه السياسى يحميه، لاشك أن بعض الشخصيات قفزت فوق هذا الحاجز، منها جاجارين.
ما الذى حدث لهذا المنتجع السكانى بعد مضى كل هذه السنوات نحو 60 عاما، ما الذى حدث للسكان وهم متعددو الهويات العرقية والسياسية واللونية ويتحدثون بأكثر من لغة بالإضافة للفرنسية؟!.. الفيلم إخراج مشترك فانى لياتارد وجيرمى تروله. الوثيقة فقط لزرع الحنين والزمن وليس لها أى علاقة بالفيلم سياسيا، التمسك بالمكان والفساد المستشرى وتعدد الدوافع واختلاف البشر، يحلم «يورى» بطل الفيلم بالتماهى مع رائد الفضاء، يزرع فى المبنى صوبا للخضراوات تتماثل مع يمكن أن يجرى فى الفضاء.
التماهى والحلم الذى يعيشه يورى هو معادل موضوعى لكل أحلامنا المجهضة التى عشناها ولانزال مهما اختلف الزمان والمكان، مات جاجارين فى حادث طائرة بينما مات يورى جاجارين وهو يرى أحلامه تتحطم بسبب اغتيال أحلامه.. ولم تنته بعد أحلام «جاجارين»!.