بقلم : طارق الشناوي
بدايةً، لا أتشكك فى حق أى إنسان فى أن يكتب على صفحته وقائع حتى لو كان لها مذاق الاتهامات طالما يملك الأدلة القانونية.. ربما بالفعل ما ذكره صحيحا.. وطالما استخدمت توصيف «ربما»، فإن الوجه الآخر للصورة أننى لا يمكن أن أدين إنسانًا بسبب «ربما».
أكثر من سيدة اتهمت مخرجًا له فيلم فى المسابقة الرسمية لمهرجان القاهرة السينمائى الدولى بالتحرش، وذكرت كل منهن واقعة أو أكثر، وعلى الجانب الآخر استوقفنى توقيت النشر الذى يسبق بساعات قليلة من لحظات ذروة السعادة التى يعيشها المخرج الشاب فى أول أفلامه الروائية، وهو يرى مشروعه الأول يدخل إلى التنافس مع عدد من أهم الإنجازات السينمائية فى عام الجائحة والمسابقة.. بالفعل، هذا العام به العديد من الأفلام الرائعة، وفيلم المخرج - المتهم الذى لم تثبت إدانته - بينها.. الذى يدفعنى لتجهيل اسمه فى المقال أن البيان الرسمى للمهرجان صُدر دون تحديد، المنطق الأدبى يفرض علىّ ألا أذكر اسمه رغم أن العديد من المواقع الصحفية كتبت اسم المخرج والفيلم، ولكنى ملتزم فقط بمنطوق البيان وتَعمُّد ألا يحدد من هو المتهم، وأشار البيان المنشور على الصفحة الرسمية للمهرجان إلى أنه لو ثبت التحرش فسوف يلغى فيلمه من المسابقة.. وكلنا نعلم أن المهرجان سينهى فعالياته مساء اليوم، فكيف يلغى؟، وهل يوجد فى العالم كله جهاز قادر على إثبات الإدانة أو البراءة فى لحظات؟. كنت أرى- ولا أزال- أنه لا يجوز للمهرجان إصدار مثل هذا البيان، لأنه يطيح بأول مبادئ العدالة، كثيرًا ما نردد الكلمة فى كل الأدبيات، وهو بالمناسبة تطبقه كل الدول: (المتهم برىء حتى تثبت إدانته)، الأمر لم يزد على كونه حتى هذه اللحظة اتهامًا، ولم يتحول بعدْ إلى حتى بلاغ للشرطة، والمقولة القانونية المعمول بها فى العالم كله أيضًا (براءة مذنب خير من إدانة برىء)، وهو ما يتم توصيفه قانونًا (الشك يفسر لصالح المتهم). من المعروف أن (الأحكام تُبنى على الجزم واليقين لا على الشك والتخمين)، الذى حدث هو أن الشك ولو افترضنا حتى أنه صحيح بنسبة 99% فلا يتم الأخذ به، لأنه يضرب العدالة فى مقتل، حيث توجد فى الحدود الدنيا نسبة 1%. لا تقطع الشك باليقين.
الغريب أن إدارة المهرجان رغم أنها لم تسحب الفيلم من المسابقة إلا أنها ألغت الندوة التى كانت قد أعلنت عن إقامتها قبلها بأربع وعشرين ساعة، أسوة بكل أفلام المسابقة.. وحتى تنضبط القراءة الصحيحة للمقال، أنا لا أدافع عن شخص لم أره إلا مصادفة مساء أمس الأول، ولكنى أدافع عن مبدأ، أرى أن التهاون فى تطبيقه سيضعنا جميعًا مع الأيام فى مأزق، لو واجهتنا اتهامات من نفس الكأس أو غيرها.
من المؤكد والبديهى أن الانتهاكات الأخلاقية لا تموت بالتقادم، ولدينا المخرج العالمى رومان بولانسكى يقترب من التسعين وأدين فى قضية اغتصاب قاصر فى نهاية السبعينيات بالولايات المتحدة الأمريكية، والفتاة القاصر أصبحت جدة، بل سامحته أيضا على تلك الجريمة النكراء، لكن الوجدان والضمير لم يسامحه، ولا أيضا القانون، لأن تنازل الضحية لا يعنى التغاضى عن العقوبة.. وهكذا صار اسمه ترقب وصول فى العديد من العواصم، وكثيرا ما يتم استبعاده من التكريم فى اللحظات الأخيرة فى أكثر من المهرجان، هو فقط يُستبعد كشخص، ولكن أفلامه تُعرض، وعدد كبير منها حصد أيضا الجوائز، لأنه مطلوب جنائيا، بل مُدان بحكم المحكمة، إلا أنه حصل على جائزة (سيزار) الفرنسية التى تماثل الأوسكار الأمريكى ثلاث مرات، كما أنه حصل مرة على الأوسكار الأمريكى عن أهم أفلامه (البيانيست) عازف البيانو، وأخرى عن (بافتا) البريطانية. فى كل مرة لم يتوقف احتجاج المجتمع المدنى- وليس فقط كما يتبادر للذهن أن المنظمات النسائية تعترض- المجتمع كله، رجاله قبل نسائه، يعلنون الغضب، لأن هناك إدانة موثقة، ولكن ما قبل التوثيق يجب أن نتحرى الدقة فى كل التفاصيل.
مثلًا النجم الفرنسى العالمى (آلان ديلون) الذى تم تكريمه قبل نحو عامين بجائزة إنجاز العمر (السعفة الذهبية) فى مهرجان (كان) سبق وأن تعرّض لاتهامات بالتحرش والعنف ضد المرأة، وقال وقتها النجم الوسيم: «هن اللاتى تحرشن بى». ودافعت إدارة المهرجان عن اختيارها، وقال تيرى فريمو، المدير الفنى للمهرجان، إنها مجرد اتهامات، وبعضها وصل بالفعل لساحة القضاء، ولكن لم تنته إلى أحكام قاطعة.. وذهب البعض وهم يحملون لافتات أحاطت قصر المهرجان تطالب بإلغاء تكريمه، وظل المهرجان على موقفه ملتزما بالقانون.
(السوشيال ميديا) صارت تحكم وتتحكم فى القرارات، لأن البعض يخشى من ثورة عارمة تلتقطها بعدها كما تعودنا الفضائيات والمواقع الصحفية وتصبح قضية رأى عام.. المأزق أعلم أنه خطير ويتجاوز مساحة مقال فى جريدة، ويجب أيضا أن نأخذ فى الحسبان أن جرائم التحرش، لأنها بطبعها أو بنسبة غالبة تتم فى دائرة محدودة، وغالبا لا يتجاوز حضورها الطرفين، ليصبح الإثبات صعبًا إن لم يكن مستحيلا، ورغم ذلك فإن براءة مذنب خيرٌ من إدانة برىء، وهذا هو السياج الذى يحمينا جميعًا.
التحرش ليس فقط بالجسد ولا موجَّه فقط ضد النساء، ولكن عدم تنفيذ القانون هو تحرش ضد العدالة.