بقلم : طارق الشناوي
كانت وصية المخرج الكبير يوسف شاهين لتلاميذه أن يصاحبه صوت الشيخ محمد رفعت إلى مثواه الأخير.
البعض اعتبرها بمثابة رغبة ليوسف شاهين واجبة النفاذ تعنى إشهاره الإسلام، ولم يكن الأمر أبدا على هذا النحو، يوسف شاهين ولد كاثوليكيا ومات كاثوليكيا، إلا أنه كان من عشاق صوتى الشيخ رفعت وأم كلثوم، هذه الأيام صادفت ذكرى رحيل وميلاد صوت الجنة وقيثارة السماء، كانت تلاوته للقرآن الكريم لكل الأديان، الشيخ رفعت منحة إلهية لكل من يملك أذنًا تسمع ووجدانًا يشعر.. هذا الصوت تغلغل ولا يزال فى وجدان البشرية، على مدى أكثر من 150 عاما منذ أن بدأ القراءة قبل نهاية القرن التاسع عشر حتى رحيله عام 1950.
نسمعه طوال العام ولكننا فى رمضان نتوحد مع صوته.. والحقيقة أن ما تبقى من صوت هذا الشيخ الجليل لا يتجاوز 10% فقط.. هذه هى نهايات صوته وليست بداياته، ولا عنفوانه أو شبابه، هذه التسجيلات قام بها هواة وليسوا محترفين مع ملاحظة أن آلات التسجيلات فى الماضى لم تكن تتمتع بحساسية فى التقاط الأصوات. ما نسمعه الآن بصوت «رفعت» كانت به بعض كلمات غير واضحة، اضطرت الإذاعة إلى الاستعانة بالشيخ «أبو العينين شعيشع» لكى يسجل بعض الحروف أو الكلمات الناقصة، كان الشيخ أبوالعينين من تلاميذ الشيخ رفعت النجباء ولهذا قام بهذه المهمة على خير وجه.
كان الشيخ هو أول من فكرت الإذاعة المصرية بعد إنشائها عام 1934 وتحديداً 31 مايو فى تسجيل القرآن بصوته ليظل خالدًا مع مرور الزمن، وكان الشيخ «رفعت» هو أيضًا أول صوت يسمعه الناس عبر الإذاعة الرسمية عند بدء إرسالها بعد أن توقفت كل الإذاعات الأهلية التى بدأت قبلها بحوالى عشر سنوات. لماذا لم يسجل الشيخ «رفعت» القرآن بصوته؟.. فى منتصف الثلاثينيات وبعد أن وافق الشيخ على التسجيل تدخل بعض المتزمتين دينياً الذين يتصدون لكل ما هو جديد ودستورهم الدائم (كل بدعة ضلالة وكل ضلالة فى النار)..
هؤلاء المتزمتون قالوا: كيف يا مولانا تسجل أسطوانة عليها القرآن ولا تدرى أين تذاع بعد ذلك، ربما وضعت فى مكان غير لائق؟ تراجع الشيخ امتثالاً لهذا الرأى المتشدد.. ولكن قبل رحيل الشيخ «رفعت» حاولت الإذاعة المصرية مرة أخرى وحصل على فتوى شرعية، بجواز التسجيل واختلفوا على السعر.. طلب الشيخ 100 جنيه ثمناً للأسطوانة الواحدة ووافقوا فى البداية ثم خفضوا المبلغ إلى 75 جنيهاً، كما أن الاتفاق كان يشمل أيضا تسجيل أسطوانات أخرى لإذاعة لندن مقابل 70 جنيها، شعر الشيخ أن صوته ليس للمساومة ولهذا لم يتنازل عن شرطه.
قرأت تحقيقًا أرشيفيًّا نشرته مؤخرا الزميلة دعاء جلال على صفحات جريدة الأهرام، اتهم فيه كبار المسؤولين فى الإذاعة ورثة الشيخ رفعت بعد رحيله بعام، أنهم هم الذين أقنعوه بعدم تسجيل القرآن حتى تظل الإذاعة بحاجة إلى صوته، بينما أولاده أنكروا وأكدوا أن الشيخ احتج بسبب مساوماتهم وتراجعهم عن الاتفاق، لم تدرك الإذاعة المصرية وقتها أهمية أن تسجل 50 شريطاً لتحفظ للأجيال القادمة القرآن كاملاً بصوت «رفعت».. ورغم ذلك فإننا نعيش مع هذا الجزء اليسير، فتهفو قلوبنا دومًا إلى صوت الجنة!!.