انتهت رحلة العشرة أيام، كفة الإيجابيات هى الراجحة قطعًا، فريق العمل تمكن من عبور النفق المظلم إلى آفاق أرحب، استطاع محمد حفظى أن يبث فى أوصال المهرجان العجوز دماء شابة قادرة على الإضافة، ولا أعنى بالضرورة العمر الزمنى، لكن القدرة على الإضافة وإطلاق العنان للخيال.
فى نشوة الاحتفاء بالانتصار لدينا طموح أتمنى ألا نفقده، إنه الجمهور، فلايزال هو الهدف الأسمى، انطلق حفظى بعيدا عن قيود (الكتالوج) الذى كان مقيدًا لكل من سبقوه، فى ظل خضوع المهرجان لوزارة الثقافة التى صارت تقيم المهرجان منذ الدورة 2014 بينما الصحيح هو أن يقام المهرجان فقط تحت رعايتها، الفارق شاسع بين إقامة المهرجان ورعايته. حفظى نجح فى الخروج اقتصاديا من الارتماء فى أحضان الدولة، وهذا يتيح له قدرًا أكبر من المرونة.
ربما لا يتذكر كثيرون أنه فى زمن سعد الدين وهبة، الذى تولى المسؤولية منذ 85 وحتى رحيله فى 97، كنا نسأله عن دور وزارة الثقافة؟، يجيب ساخرًا نحصل منهم على (الدعوات)، وعندما نكرر السؤال: ما الذى يقصده بالدعوات تحديدًا؟.. تأتى الإجابة القاطعة (الدعوات الصالحات)، فلم يكن المهرجان بحاجة إلى دعم مادى من الدولة، بل فى كل عام ومن حصيلة شباك التذاكر، يضع فى البنك مليون جنيه للدورة القادمة، بالطبع تغيرت الظروف ولم يعد الشباك يمثل أى مصدر مالى.
التحرر الاقتصادى يمنح المهرجان القدرة على تحقيق الأحلام، وقد نجح رئيس المهرجان والفريق الذى يقوده فى طرق أبواب المجتمع المدنى للمساهمة فى الميزانية، والتى تجاوز 50% من نفقات المهرجان، وكما أعلن حفظى، فى حفل الختام، أنه باع نحو 40 ألف تذكرة، فى العام الماضى كان الرقم 15 ألفا، وقبل ذلك كنا نتحدث عن 5 آلاف، رغم أن تعداد القاهرة يتجاوز 20 مليون نسمة، أتمنى أن يصبح الشعار حتى لو بات أملاً بعيدًا (مهرجان المليون مشاهد).
حفل الختام كان متخمًا بالجوائز والصعود والهبوط إلى خشبة المسرح غير المبرر وأيضا العشوائى، عدد ضخم جدًا من الجوائز مع تعدد أقسام المهرجان، صار الأمر بحاجة إلى توزيع جوائز بعض الأقسام، فى ليلة أسبق من حفل الختام، والتى أراها تقتصر فقط على جائزتى المسابقة الرسمية وآفاق عربية، هذا يمنح قدرًا من الخصوصية، ويصب فى صالح الجوائز الموازية مثل سينما (الغد) و(القصيرة) و(الفيبرسى)، لتحصل على اهتمام إعلامى تستحقه، ويتيح أيضًا لمخرج حفل الختام أن يضيف قدرًا من الجاذبية على العرض الختامى، مع ضرورة إلغاء مبررات الجائزة تمامًا، فلا توجد أى ضرورة لتقديم عريضة تؤكد أحقية الفيلم فى الجائزة.
اسم مصر لم يتردد أمس سوى مرتين، تنويه لندى رياض عن فيلمها القصير (فخ) والذى سبقت مشاركته فى أسبوع النقاد بمهرجان (كان) الأخير، كما أن ماريان خورى حصدت بفيلمها (احكيلى) جائزة الجمهور، والتى تحمل اسم الإعلامى الكبير الراحل يوسف شريف رزق الله ومقدارها 20 ألف دولار، ويبقى أن تحاط تلك الجائزة بقدر من الانضباط، ولا يعنى هذا بالمناسبة تشكيكًا فى انحياز الجمهور المصرى لفيلم يحمل اسم البلد، سواء كان انحيازًا فنيًا أو وطنيًا، لكنى لاحظت أن التصويت لا يتمتع بقدر من الانضباط المطلوب.
وبين العديد من الأفلام المستحقة للجوائز وعن جدارة أتوقف عند جائزة النقاد لفيلم (أبناء الدنمارك) للمخرج عراقى الجذور علاوى سعيد.
الفيلم لا يستند مباشرة إلى رواية أو وثيقة، لكن ملعبه الدرامى هو ما يمكن أن يتجاوز الوثيقة والتاريخ، كلنا نتابع حالة الهلع ضد كل ما هو إسلامى أو عربى، حتى لو لم يكن مسلما، ولا يمكن أن نغض الطرف عن خوف من تغيير هوية أوروبا بالأجيال الثانية والثالثة من المهاجرين الذين يحملون الجنسية الأوروبية، ولكن تجرى فى شرايينهم دماء عربية ودين إسلامى مع الأسف تم تشويهه فى عقول البعض وصار يعنى القتل والدمار للمختلف.
وهكذا نشاهد مذابح واغتيالات لعدد من المتطرفين وهم يدافعون عن هوية بلدهم. القتل قطعًا لا يبرر القتل، لكن علاوى مخرج وكاتب الفيلم يضع يده على الجراح هنا وهناك وأنت فعلا تتابع ما يجرى، من مهاويس تم غسيل وجدانهم قبل عقولهم ليتحولوا إلى قتلة، وبديهى أن الدماء تخلط فيضانا لا ينتهى من الدماء.
عندما تتعامل مع مشاعر يجب أن تطل من وجهة نظر هؤلاء وليس كما ترى أنت من خلال قناعاتك.
نسافر كثيرا خارج الحدود، وندرك أن هناك من يستشعر الخطر من مجرد نطق اسم العربى أو لو رددت كلمة فى الشارع تشى بهويتك القومية أو الدينية.
الفيلم زاعق ضد التطرف، وكانت الفرصة أمامه مهيأة أكثر لتقديم حالة فكرية موازية، لكن الدماء استحوذت على (الكادر)، ووصلنا للذروة مع الجريمة الأخيرة عندما يغتال بطل الفيلم السياسى الصاعد إلى سدة الحكم فى الدنمارك فهو مؤمن، كـ«يمينى متطرف»، بطرد كل من لا يحمل دماء دنماركية خالصة.
الفيلم صرخة قدمها علاوى، غاب عنها فى الكثير من المشاهد المنظور الفنى بجمالياته، ورغم ذلك جاءت فى وقتها تماما واستحوذ المخرج على المساحة الأكبر من تصفيق الجمهور فى مهرجان القاهرة، ولو كان للتصفيق جائزة لحصل عليها (أبناء الدنمارك)!!.