بقلم : طارق الشناوي
وحيد حامد وكابتن رمضان كانا هما نجمى مهرجان القاهرة، أمس الأول، الكلمة التى تخترق حاجز الزمن، هكذا أرادها وحيد، والأمل الذى يخترق حتى سقف الأحلام، هكذا أرادها (كابتن رمضان)، شاهدنا ظهرًا تكريم الكاتب الكبير فى ندوة وتوقيع كتاب (وحيد حامد الفلاح الفصيح)، وتابعنا ليلًا فيلم مى زيادة (عاش يا كابتن)، الذى رصد لنا الأيام الأخيرة فى حياة مدرب رفع الأثقال (كابتن رمضان)، ورغم ذلك لم ترحل الفكرة ولم يدفن الأمل.
وحيد هو السحر الجمالى للإنسان المصرى عندما ينصهر فى بوتقة الإبداع، وكابتن رمضان هو عمق الإنسان الذى مهما تضآلت أمامه الإمكانيات فهو قادر على قهر المستحيل.
قبل الندوة، توقعت اللجنة العليا بالمهرجان الزحام، لأن عشاق الكاتب الكبير، وهم كُثر، سيحرصون على المجىء، بدأت شائعات تسرى لإفساد التكريم، قالوا إن تذاكر حضور الندوة مباعة مسبقا، وحددوا السعر 40 جنيهًا.
وهى نصف الحقيقة، لأن الحضور يفرض أولًا الحصول على تذكرة، حيث إن وزارة الصحة تتشدد، ولها قطعًا كل الحق فى ضرورة ضبط عدد الحاضرين لأى فعالية، ولا يتجاوز نصف سعة الصالة، ولهذا جاءت فكرة التذكرة المجانية لتضبط العدد، ورغم ذلك فقد سُمح أيضا لكل عشاق ومريدى كاتبنا الكبير الحضور بلا تذاكر، طالما لا يزال المكان يسمح.. أمس الأول كانت إحدى الذرى التى قدمها المهرجان فى دورته الاستثنائية، التى راهن فيها محمد حفظى على تقديم دورة تليق بمصر، عندما شاهدنا تلك الطوابير التى تقف على باب الدخول لكى تشارك فى حضور ندوة تكريم كاتبنا الكبير، شعرت أن الكلمة تُكرم فى شخص وحيد، الزحام فى المهرجانات عادة مرتبط بالنجوم وبالأفلام المهمة، ولكنها المرة الأولى التى نتابع فيها كل هذا الحضور ومن مختلف الأجيال للتحاور مع كاتب. تخطف الكلمة الصادقة الكاميرا، لأنها تنفذ إلى العمق وتصل إلى الروح، الناس مع اختلاف توجهاتهم جاءوا من أجل المتعة العقلية، وهكذا جاء يوم تكريم وحيد بمثابة حفل افتتاح آخر للمهرجان يعلى من شأن وقدر الكلمة والفكرة.
إخلاص وحيد للقضية التى يتناولها هو عمق الحكاية، الرجل لم يتكسب سوى مما يكتب، ولم يعش إلا لكى يعبر عن رأيه مهما اشتدت العواصف والأنواء، فهو صامد لا يتبدل، إنه- كما وصفه أكثر من كاتب درامى- تواجد فى تكريمه (الكبير الذى علمهم السحر)، وحيد حامد كان هو الكلمة التى رصّعت صدر المهرجان بكل هذا الألق، ولم ينس كعادته فى الحوار مع الجمهور أن يشيد بالكبار الذين تعلم منهم واستوقفهم إبداعه، مثل الكُتاب الكبار محسن زايد ورأفت الميهى، وأشار إلى عبدالحى أديب، وكيف هنأه بفيلم (اللعب مع الكبار)، وقبله محمد عثمان، الذى كثيرا ما دافع عنه، تلك هى الروح الحلوة التى أحاطت بكاتبنا الكبير، وهو ما يمارسه مع كل يد طلبت منه المساعدة، ولهذا حرص يوم تكريمه على أن يذكرهم جميعا.
إنه يوم سينمائى بامتياز، حيث عرض واحدًا من أهم التحف السينمائية هذا العام، الفيلم الأمريكى الحائز (أسد فينسيا) قبل نحو شهرين (أرض الرحل)، إخراج الصينية كلوى تشاو، وهو يستحق منا مساحة أخرى. لننتقل إلى ختام العروض بالفيلم التسجيلى (عاش يا كابتن) إخراج مى زيادة.
المهرجان بدأ قبل نحو أربع سنوات مثل كل المهرجانات الكبرى بالسماح بعرض الأفلام التسجيلية الطويلة داخل مسابقته الرسمية.
العام الماضى (احكيلى) إخراج ماريان خورى الحاصل على جائزة الجمهور، هذا العام فيلم (عاش يا كابتن)، رسم القدر السيناريو ولم يكتبه أحد، شاهدنا الكابتن رمضان مدرب رفع الأثقال الحالم بأن يحقق جائزة عالمية للفتيات بالإسكندرية وهكذا يبدأ بتدريبهن، ونرى المكان الفقير، مساحة أشبه بخرابة موحشة، أحالها الكابتن رمضان بإمكانيات بسيطة ومقابل اشتراك ضئيل جدا إلى جيم شعبى للتدريب، ورأينا أثناء التدريب الإخفاقات أكثر من الانتصارات، كابتن رمضان وكأنه يستعد للرحيل، فى كلماته كان حريصا على تأكيد أن الحياة ستمنحه سنوات عديدة قادمة، بينما عيناه يسكنهما الموت، هكذا رأيت كثيرا العيون التى تسبق الموت.. راجعوا مثلا نظرات عبدالحليم حافظ أو سعيد صالح قبل الرحيل، تجد دائما أن هناك عالمًا آخر ذهبت إليه، فهما ليسا معنا تماما، جزء يعيش هناك، الكابتن رمضان أرسل لى إشارة من خلال اللقطات القريبة لعينيه باقتراب الرحيل، ولم أدر طبعا هل سيودعنا أثناء التصوير؟!.. ولكن هكذا جاء التوقيت ليعيد بناء السيناريو، يتحول حضور الكابتن رمضان من الكلمة إلى الفكرة، الكابتن زرع شجرة، ورأيناها تنبت وكأنها تؤكد لنا أنه لا يزال يمنح السعادة والنماء للبنات الفقيرات اللاتى راهن عليهن وراهنّ عليه، المرأة المقهورة، منذ (اللفة) حتى الكفن، تستطيع أن تفعل الكثير لو وجدت من يؤمن بها، هذا الفيلم بكل تلك البساطة يرد لها الاعتبار المجتمع الذكورى المحافظ والمتحفظ والمتحفز دومًا ضد المرأة، استطاعت بناتنا أن يحققن الانتصار، ويمارسن رياضة ينظر إليها دومًا بأنها تليق فقط بالرجال، وعاشت القيم والهدف الذى زرعه فيهن كابتن رمضان.
حرصت المخرجة مى زايد على أن تقدمه لنا بـ(عَبَلِه) على الشاشة: مشيته، تسريحة شعره، مداعباته، قذفه بالحجارة، وتجاوزه بالألفاظ ضد من يأتى من المراهقين للسخرية من حلمه.. كلها تفاصيل تصب لصالح الفكرة، لو تدخل المونتاج أكثر فى اختصار اللقطات الزائدة فى الجزء الأخير من الفيلم بعد رحيل (كابتن رمضان) لزادت جاذبية الشريط، ورغم ذلك، يجب أن نذكر أن الفيلم تمكن من أن يسكن الوجدان، ووصلت الرسالة، وعاش كابتن رمضان بعد رحيله.