بقلم : طارق الشناوي
ساعات قليلة تفصلنا عن افتتاح مهرجان برلين في دورته الـ(70)، وهو الرقم الذي دفع منظميه للبحث عن ملامح جديدة في فعالياته وإدارته، المهرجانات مثل البشر تشيخ إذا استسلمت لأحكام السنين، ولكنها ليست ككل البشر، حيث إنها تراهن على الحياة، وتحيل الزمن إلى قوة إيجابية لصالحها.
بمجرد هبوط الطائرة لمطار (تيجال) في برلين تشعر بأن المدينة تعيش كلها في حدث استثنائى، وشعار (الدب) الذي يحمل رمزيًا اسم المدينة صار هو المسيطر على المشهد برمته، دائما ما تلمح أثناء تجوالك مجسم (الدب) بمختلف أنماطه، معلنًا أن المدينة كلها تعيش في حالة فرح، التوقيت عز البرد الأوروبى، ودرجة الحرارة في الأغلب دون الصفر، المهرجان منذ نهاية السبعينيات انتقل بموعده من الصيف إلى الشتاء، ورواده من كل دول العالم صاروا يضبطون ساعاتهم (البيولوجية) على هذا التوقيت، برغم قسوته، وحرصت الإدارة الجديدة، في أول اختبار لها هذا العام، على ألا تصطدم بجبل اسمه (الأوسكار)، وهكذا انتقل المهرجان من مطلع فبراير كما تعود إلى نهايته، لأنه يعلم أن كل (الميديا) تظل على الأقل نحو أسبوع، وهدفها الوحيد هو تحليل (الأوسكار) وجوائزه، وهو ما سيؤثر قطعا بالسلب على وهج برلين. السجاد الأحمر يُطل عليك بمجرد الاقتراب من مقر المهرجان، الإجراءات الأمنية أراها في حدودها الدنيا، لا يمكن أن تقارنها مثلا بما يجرى في مهرجان عريق ومواز في الأهمية لـ(برلين) وأقصد طبعا (كان)، المؤكد أن كلا المهرجانين لديهما نفس الهاجس من الخوف، ولكن أسلوب المعالجة يختلف، الوصول إلى قاعة مشاهدة الأفلام في (كان) يخضع لتدقيق متزايد ومتعدد، فهو يضيع الكثير من الوقت، فإن (برلين) لا يفرض على رواده من الصحفيين والإعلاميين إلا القليل جدا من تلك الإجراءات، الشغف الجماهيرى بكلا المهرجانين واحد، والمدينة كلها بكل فنادقها متعددة الدرجات تعيش أيام وليالى المهرجان العشرة في حالة يتعانق فيها الشغف السينمائى والفرحة بالحياة، تُفتتح هذه الدورة بالفيلم الكندى (عام سلينجر)، إخراج فيليب فالاردو، من المنتظر أن يحضر المخرج الافتتاح مع أبطال الفيلم سيجورنى ويفر ومارجريت كويلى ودوجلاس بوث، المدير الجديد كارلو شاتريان سيجد نفسه، ومنذ الوهلة الأولى، كل خطواته وأفكاره مرصودة، فهو يأتى بعد 18 عاما قضاها المدير السابق 18 عاما ديتر كوسليك، وقبله دو هادلين 20 عاما، وهى- كما ترى- أرقام ضخمة في نظم سياسية تؤمن بفضيلة التغيير، ولكن كما يبدو في بعض المواقع الفنية والثقافية يصبح الثبات لأكبر فترة ممكنة هو الحل الأمثل للنجاح، وفى (كان) أيضا تواصل نفس الإدارة العمل عدة عقود من الزمان، بينما في مصر صار تغيير المسؤول في مهرجان (القاهرة) هو القاعدة الثابتة، وبعد مرحلة سعد الدين وهبة، التي بدأت عام 85 واستمرت حتى رحيله 97، لم يشهد هذا الموقع استقرارًا.
الرهان على التغيير هو ما يفرضه عادة بعض المثقفين على كل وزير ثقافة يعتلى الكرسى، المدير الجديد لمهرجان (برلين) إيطالى الجنسية، ولا أحد يسأل هنا عن جنسية ولا ديانة ولا لون، لكن عطاء، وبهذا الترمومتر فقط سوف يتم تقييمه.
كثيرا ما أسأل نفسى هل من الممكن أن نحقق قفزة في مهرجان القاهرة السينمائى، الذي صار هو الفرح السينمائى الأبرز في حياتنا؟، لا شك أن محمد حفظى وإدارته يعملون بروح وإيقاع مغاير لما تعود عليه المهرجان في دوراته السابقة، انتقلوا لعصر الديجيتال، عدد النساء في الإدارة الفنية للمهرجان يرتفع إلى أكثر من 50%، وبالقطع لم يشتركن لأنهن نساء، ولكن لأن لديهن شغفًا بالسينما، ويشهد كاتب هذه السطور أننى كثيرا ما كنت أرى في السنوات الأخيرة عددا منهن في المهرجانات الكبرى، وبرغم ارتفاع أسعار الإقامة والسفر وبدون مساعدة من أي جهة، تحملن النفقات، ولهذا من البديهى أن رئيس المهرجان محمد حفظى، والمدير الفنى أحمد شوقى، يستعينان بكل هؤلاء في مواقع رئيسية وفاعلة بالمهرجان.
طبعا المرأة لا تحتاج إلى «كوتة» مثل التي يطبقها رجال السياسة للدفاع عن الأقليات وتحديد نسبة تمثيل مسبقة، وهذه النسبة تفرض نفسها.
بين الحين والآخر نتابع الغضب العارم الذي تكرر في العديد من التظاهرات السينمائية، حدث قبل أعوام قليلة في (كان) عندما خلت قائمة الأفلام في المسابقة الرسمية من اسم مخرجة ووجهت النساء اتهامًًا لإدارة المهرجان بالتحيز، وهو ما تكرر في (الأوسكار) هذه الدورة، عندما اكتشفن أنه لا توجد امرأة بين الخمسة المرشحين لجائزة أفضل إخراج في المسابقة الرئيسية، وأراها غير متعمدة على الإطلاق، ولكنها تعبر عن رأى أغلب أعضاء الأكاديمية الدولية لعلوم وفنون السينما، التي تُقيم تلك المسابقة، حتى لو كانت الأغلبية من الرجال، فهذا لا يعنى أنهم منحازون ضد المرأة.
أتذكر في آخر لجنة تحكيم شاركت فيها لاختيار أفضل سيناريو وتكونت اللجنة بالصدفة من خمسة الرجال، منحنا بالإجماع الجائزة مناصفة لسيدتين، لأنهما كانتا الأفضل، لا شىء يقف أمام الأجمل فنيًا، سواء عليه توقيع رجل أو امرأة، ولكن يبقى على إدارة مهرجان القاهرة أن تعيد مجددًا جماهيريته المفقودة، صحيح حققنا في العام الماضى الماضى رقمًا لا يُنكر، ولكن لا يزال الطموح أكبر بكثير.
في مهرجان برلين، أو (بريناله) كما يطلقون عليه في برلين، لا نتابع فقط الأفلام، ولكن ومنذ انطلاقته الأولى قبل 70 عاما وهو لديه شغف بالحياة ويحمل دائما رسائل سياسية واجتماعية يقدمها للعالم، سواء في اختياره للأفلام أو الضيوف والفعاليات، فهو يقفز دائما خارج حدود الكادر السينمائى!!.