بقلم : طارق الشناوي
هل منع جمال عبدالناصر هذه الأغنية لأنها تتناول البوسطجى، وهى المهنة التى كان يمارسها والده؟ هذا ما ستجده يتردد مصاحبا لكواليس الأغنية، التى قدمت عام 45 ومنعت بعد ثورة 52، ستعثر أيضا على إشارة أخرى تؤكد أن عبدالناصر عندما اكتشف ذلك طالب الإذاعة بفك الحظر، فى كل العهود نرى (ملكيون أكثر من الملك) لا تنسى الرقيب الذى توجس خيفة من أغنية (يا مصطفى يا مصطفى / أنا بحبك يا مصطفى)، عام 59 على اعتبار أنها تتغنى بمصطفى باشا النحاس، لولا أن الرقيب فى تلك السنوات أديبنا الكبير نجيب محفوظ تحمل المسؤولية وأفرج عنها، كثيرة هى الحكايات التى تصبح لصيقة بعدد من الأعمال الفنية، ولا تستطيع أن توقن فى كل مرة من الحقيقة.
تذكرت أغنية (البوسطجية)، حيث مرت قبل أيام ذكرى واحد من أهم عباقرة الإبداع فى مصر الشاعر والزجال والكاتب الدرامى والغنائى والصحفى أبوالسعود الأبيارى، الفنان الاستثنائى الذى يبدو من كثرة ما قدم وكأن هناك العديد من (أبو السعود)، تواجدوا فى نفس اللحظة، يحملون نفس الملامح، طاقة الرجل فى العطاء تسمح بدخول التاريخ لعشرة (أبو السعود).
كيف كتب الأغنية؟ استمعت إلى المخرج حسن الإمام يحكى كيف ولد مطلع (البوسطجية)، الفيلم اسمه (الحب الأول) من إنتاج عبدالوهاب وبطولة المطرب جلال حرب_أحد تلاميذ عبدالوهاب، كان عبدالوهاب يبحث عن أبوالسعود وعلم أنه فى مكتب حسن الإمام، اتصل يحثه أن يرسل له الأغنية المتفق عليها وداعبه قائلا (البوسطجية اشتكوا يا أبوالسعود) وفى لحظات لمع الخاطر فى وجدانه وأكمل (وعيونى لما بكوا دابت مناديلى) لتصبح هى الأشهر فى تاريخ المطربة رجاء عبده وتكتب الخلود لاسمها، وهى أيضا من أروع الأغانى الشعبية التى لحنها عبدالوهاب.
سألت الكاتب الكبير أحمد نجل أبوالسعود الأبيارى عن الحقيقة؟ قال لى هذه هى الحقيقة، فى كل الأحوال فى زمن عبدالناصر ومن خلال إنتاج مؤسسة السينما قدمت الدولة فيلم (البوسطجى) لحسين كمال ـ لو كانت هناك حساسية لدى عبدالناصر من مهنة أبيه، ما كان من الممكن أن يخرج للناس هذا الفيلم.
لا أستبعد قطعا أن هناك موظفا يزايد على الرئيس، الحياة أثبتت أن هؤلاء نجدهم متوفرين بكثرة وفى كل العهود ولديهم أسلحتهم الفتاكة مثلا يقولون (فلان مش مرضى عنه من فوق)، وتسأل أى فوق؟ يكتفون بالابتسام، وكالعادة وأخذا بالأحوط يمنع، وربما عن طريق الخطأ يعرض أو يذاع له شىء، فيسقط المنع تلقائيا.
قبل أيام أفرجوا فى الإذاعة الرسمية عن أغانى المطربة شيرين، يقينى أنه لم يصدر أساسا قرار، ولكن المنع جاء من أحد الموظفين، كنوع من إضافة (التحابيش) لقرار هانى شاكر نقيب الموسيقيين بالتحقيق معها، بحجة أنها أساءت لسمعة مصر، والغريب أن هانى أوقف التحقيق، إلا أنها ظلت ممنوعة بعدها بضعة أشهر، نعم سنكتشف أن من منعها هو أحد أحفاد الموظف الذى صادر قبل 68 عاما (البوسطجية)!!.