بقلم : طارق الشناوي
يبدأ الفيلم بلقطات تسجيلية (أبيض وأسود) فى عام 62 مع الشعب الجزائرى وهو يحتفل بانتصاره بعد أن دفع ثمنًا غاليًا، مليونًا ونصف المليون شهيد لتحرير أرضه، ونستمع إلى الجماهير وهى تردد النشيد الوطنى الذى كتبه كسلاح للمقاومة الشاعر الجزائرى مفدى زكريا ولحنه الموسيقار محمد فوزى، وتبدأ كلماته الهادرة فى وجه المحتل الفرنسى المتوعدة بالنغمات «قسمًا بالنازلات الماحقات» وكان الفدائيون يرددونه وهم يضعون أرواحهم على أياديهم فى مواجهة جنود الاحتلال، الكلمات بالعربية الفصحى لتؤكد هوية هذا الشعب، وعلى الشريط السينمائى تتغير الصورة من زمن الستينيات بكل تفاصيله وظلاله لنرى الشاشة ملونة، حيث إنها تنتقل قرابة 60 عامًا تتناول اللحظة الحاضرة وخروج الملايين مجددًا من أجل الدفاع عن الكرامة والحرية والعدالة وتحطيم صنم يرى أن الاستمرار وبقاء الحال على ما هو عليه هو فقط الثمن الطبيعى للاستقرار.
كانت الجزائر بعيدة عن الانخراط فى الحراك الشعبى وترديد نفس الشعار الذى بدأ فى تونس مع نهاية عام 2010 (الشعب يريد إسقاط النظام) فيما عرف بثورات الربيع العربى، كان الشعب يريد أن تصل رسالته السلمية للسلطة السياسة الممثلة فى المناضل عبدالعزيز بوتفليقة الذى كان يمثل فى الضمير الجمعى الجزائرى آخر الأسماء التى لاتزال على قيد الحياة من بين رجال ثورة التحرر، وهو الذى أنهى فى الجزائر ما عُرف بـ(العشرية السوداء).. إنها تلك السنوات التى تناثرت فيها الدماء الذكية على الأرض بسبب الذين تدثروا عنوة بالإسلام وباتوا يمنحون للدماء مشروعية، تمكن بوتفليقة من إيقاف هذا النزيف، وهو ما يمكن لأحد أن يسلب منه هذا الإنجاز، مهما شابت الحكم بعد ذلك مظاهر فساد.
التمسك بالكرسى أبقاه هو والحاشية أكثر من عشرين عامًا، وكان يطمح فى المزيد، وهنا كان ينبغى للشعب أن يقول كلمته، الثورة الجزائرية فى الشارع لم تتوقف موجاتها حتى بعد نجاحها فى إيقاف سيناريو التمديد، ولايزال من طقوس قطاع من الشعب التظاهر كل يوم جمعة، فهو معترض على الاستحقاق الرئاسى الذى أتى بالرئيس عبدالمجيد تبون، بحجة أنه كان رئيسًا للوزراء وعمل أيضا وزيرًا أكثر من مرة فى عهد بوتفليقة.. حققت المظاهرات هدفها، ولكن لا يزال هناك من يريد رئيسًا كان بعيدًا تمامًا عن الاقتراب من السلطة السياسية السابقة والتى تجاوزت عقدين من الزمن.
فى كل الأحوال، كان المخرج جزائرى الجذور برازيلى الهوية، كريم عينوز، الحاصل على العديد من الجوائز العالمية وآخرها جائزة قسم (نظرة ما) فى مهرجان (كان) الأخير بفيلمه (عوالم خفية)، بينما فيلمه الجديد (نرجس) يرتكن إلى رؤية توثيقية للحظة، الفيلم الجديد عرض فى قسم (البانوراما) ومرشح بقوة لجائزة الجمهور. لاحظت أن قطاعًا معتبرًا من الجمهور الجزائرى حرص قبل يومين فى العرض الأول للفيلم بالمهرجان على الحضور بكثافة عددية لمؤازرة فيلم يمثل بلدهم بالمهرجان، وأيضا التصويت له لنيل جائزة الجمهور، وهو كشريط سينمائى يستحق فعلًا الإشادة.
الفيلم يتتبع حياة يوم من متظاهرة، والتى بدأت رحلتها فى الشارع مع الأيام الأولى للثورة الجزائرية، المخرج يمنح الجمهور من خلال عين الكاميرا الإحساس بالحرية فى اختيار اللقطات، تنقل الكاميرا بحياد الحياة فى الشارع ونشاهد الجميع- فى لقطات محايدة قبل الاحتشاد السلمى الجماهيرى - مثل طفل يلهو مع أسراب الحمام على الأرض، عجوز تعبر الشارع، ثم يبدأ الشارع فى إعلان الغضب.. ونتابع بطلة الفيلم، وهو تعمد ألا يطلق عليها مناضلة ولكن متظاهرة لتصبح واحدة من الملايين، ووصف حالة الفيلم من خلال رصد اجتماعى (يوم فى حياة متظاهرة) فهى مثل الآخرين، وكانت أيضا تتحرك بعفوية، فهى كما يبدو لنا لم تكن تضع فى العادة مكياجًا على وجهها، ولكنها بسبب التصوير وضعته وقالت ذلك مباشرة.
فى السنوات الأخيرة، صار من النادر أن تجد أفلامًا تتناول الربيع العربى مساحة فى المهرجانات، بعد أن كانت هى الهدف، وبالطبع كُنت مواكبًا لكل تلك العروض بداية من 2011، حيث لحق مهرجان (كان) بتلك الأفلام لمؤازرة هذه الثورات، من خلال الحفاوة بالأفلام ومنحها مساحات على جداولها، ناهيك عن التكريم الأدبى الذى حظى به مخرجو هذه الأفلام، كانت السينما العربية فى الدول الثلاث «مصر وتونس وليبيا» منذ البدايات حاضرة بقوة فى (كان) 2011، والكتالوج الرسمى للمهرجان أفرد مساحة لها بكان، رغم أنه تم إعدادها وفى أسابيع قليلة حتى تلحق بالمهرجان، وجاء فيلم (18 يوم)، الذى رصد بعيون عشرة مخرجين مصريين وشارك فى تمثيله عدد من كبار نجومنا، هو الفيلم الأشهر بين تلك الأفلام، وحتى الآن لم يجد بعد عرض (كان) دارًا ترحب به ولا حتى على (اليوتيوب)، ولم يقل أحد الحقيقة، هل الدولة لا ترحب بالفيلم أم أن المشاركين فى تنفيذ الشريط- وكلهم متبرعون- تغيرت قناعات العدد الأكبر منهم تجاه ثورة 25 يناير؟، وأتصور أن الإجابة الثانية هى الصحيحة فهم لم يتحمسوا لعرضه، لأنهم أيضا شاركوا على عجالة فى تصويره ولأسباب مختلفة، وبعضهم كان حريصًا على نفى علاقته بزمن مبارك والعائلة الحاكمة، ولهذا شارك فى الفيلم لتبرئة ساحته، ولكن مع مرور السنوات لم يعد الأمر كذلك، ورغم ذلك، فإن هذا لا ينفى أيضا أن موقف الدولة الرسمى البارد تجاه الشريط، والذى أتصور أنه لن يعرض رغم افتقاده أى قدر من الجذب الجماهيرى، ولو عُرض فلن يتحمس له الجمهور. ولا أتصور أن فيلم (نرجس) الجزائرى سوى أنه بعد (برلين) سيحظى بمساحته فى الشارع الجزائرى، خاصة أنه ينهى اللقطات، بينما يتردد فى أعماقنا هذا المقطع من السلام الوطنى، (وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر) وسوف يستمر هذا الشعب العريق الذى دفع مليونًا ونصف المليون شهيد من أجل نيل حريته.. وستواصل السينما توثيق لحظات الكفاح!