بقلم : طارق الشناوي
قبل يومين، كان موعدنا مع فيلم (الهاربة)، لاحظت حالة الترقب التي صاحبت الفيلم ووضعته في بؤرة اهتمام النقاد والصحفيين، فهو يمثل (كوريا الجنوبية) ويتنافس على (الدب الذهبى) كأفضل شريط، وهى النتائج التي ستعلن مساء السبت القادم، السينما الكورية تعيش الآن ذروة النجاح، بعد أن حققت انتصارًا غير مسبوق يوم 10 فبراير الماضى عند إعلان جوائز (الأوسكار).
أحدث فيلم (طفيلى) ضجة في العالم، ووضع (كوريا الجنوبية) في مكانة خاصة عند عشاق الفن السابع، والفيلم أيضا صار مطلوبًا بقوة في أنحاء المعمورة، وفُتحت أمامه العديد من الأسواق، وقفزت إيراداته، وصار الجميع ينظر بعين الاعتبار لما تقدمه هذه السينما، الفيلم الفائز لأول مرة- في سابقة تاريخية استثنائية- حيث جمع بين جائزتى أفضل فيلم أجنبى وأفضل فيلم في مسابقة الأوسكار، ناهيك عن حصول المخرج بونج جون أيضا على جائزتى أفضل سيناريو وإخراج، كثيرًا ما تثبت الأرقام أن السينما الأجنبية في مصر لا تعنى عند الجمهور سوى الفيلم الأمريكى، ما دون ذلك لا يثير ذائقته، حتى السينما العربية مهما بلغت من نجاح فلا نجد جمهورًا ينتظر، طبعًا تلعب دار عرض (زاوية) دورًا محوريًا في نشر الثقافة السينمائية بمختلف أطيافها، ولكنها لا تزال محاطة بسور اسمه النخبة، مؤخرًا، بدأ الجمهور في العالم يقبل على (طفيلى)، لأنه وجد فيه شيئًا ما يمس كل إنسان أيًّا ما كان موقعه الجغرافى، لأنه يقترب من تحليل مشاعر هؤلاء المهمشين في مصر.. لاحظت أن هناك مساحة من الإقبال الجماهيرى تمتع بها (طفيلى)، أكدت لى أن هذا السور السينمائى الأمريكى تم اختراقه بفيلم بسيط وعميق في نفس الوقت.
هذه البساطة الممزوجة بالعمق وجدتها مجددًا في فيلم (الهاربة)، هادئ جدا على السطح، بينما يغلى في الأعماق، كان هذا هو مفتاح المخرج هونج سانغسو.. سيدة تخرج من منزلها بسبب غياب زوجها لتلتقى بثلاث نساء، ومن خلال مواقف كل منهن الشخصية والعاطفية تبدأ في التحليل العميق لمشاعرها وزاوية رؤيتها للحياة، فهى ترى بالدرجة الأولى نفسها من خلال ردود أفعال الآخرين، وكأنهم قد صاروا مرآة لها كما أنها مرآة لهن، لنرى النفس البشرية في تناقضها بين الحب والرغبة، التسامح والانتقام، حتى في العلاقة مع الحيوانات الأليفة، يحلل المخرج تلك النظرة بين التعاطف والحياد، والغريب في دار العرض أن حماس الجمهور بلغ ذروته عندما حظى القط- لأول مرة على الشاشة- بتصفيق الجمهور، بعد أن أقنعهم بقدرته التعبيرية من خلال انتظاره للطعام بطرقات خفيفة على صفيحة القمامة، وأضاف لها نظرة عين وحركة ذيل.. طبعا لا أحد وجّه القط لأداء اللقطة، ولكن المخرج كان يتابع بالكاميرا ردود فعل القط في العديد من المواقف وأبقى على هاتين اللقطتين المعبرتين.
بطلات الفيلم أربع نساء، وكلهن على نحو ما هاربات حتى من مواجهة النفس، الرجال نتابعهم في مرور عابر وكاشف لحالة تلك الشخصيات.
هل يبدأ الفيلم مشوار الجوائز من محطة (برلين) مثلما فعلها (طفيلى) العام الماضى في (كان) ونال السعفة، وبعدها اقتنص العديد من الجوائز حتى تم تتويجه في نهاية المطاف بالأوسكار؟!.. ليه لأ.. دعونا ننتظر مساء السبت القادم.
* ومن العروض الخاصة بالمهرجان، الفيلم الإيطالى الذي يمنحنا الإحساس بروح الطفولة (بينوكيو) إخراج ماتيو جارونى وبطولة ريبورتو بينينى، يراهن الفيلم على مشاعر الطفل الساكن في قلوبنا جميعا، صانع التماثيل الذي حرم من الأبوة، وبعد أن فقد الأمل تماما يصنع تمثالًا خشبيًا لتلك الشخصية الأسطورية (بينوكيو)، دمية لها أيضا مشاعر، يتأمل بعد الانتهاء من وضع لمساته الخاصة على التمثال الطفل أن ينطق، فكم هو جميل ولا ينقصه شىء سوى أن يبادله المشاعر، يحرص المخرج رغم قوام الطفل الخشبى إلا أنه يتمتع بنظرة عين بشرية، ونصدقه عندما يقول (بابا)، تلك الكلمة التي حُرم منها صانع التمثال طوال حياته، استجاب الله لدعائه، وانطلق في القرية يطرق الأبواب سعيدًا بمنحة الله، ولكنه يظل طفلًا خشبيًا لا يكبر أبدًا، ويبدأ الطفل الخشبى في اكتشاف حقيقته ويلتحق بالسيرك، بينما العرائس الخشبية التي تتعامل بالخيوط التي تحركها تنظر إليه بقدر من الغيرة والازدراء، فرغم أنه خشبى مثلها، إلا أنه يُظهر العديد من المواقف التي تجعله يقترب من البشر، يلتحق بالمدرسة ويعاقبه الأستاذ بالضرب مثلما يعاقب الآخرين، لا يشعر بألم الضرب على أصابع يديه، بينما هو يتمنى الألم، يحرص المخرج دائما على أن ينتقل بنا لعالم خيالى وبشخصيات تجمع بين ملامح البشر والحيوانات والدُمى، البطل يحمل بداخله كل هذه التنويعات، إلا أنه كلما نسينا أنه تمثال خشبى يذكرنا بلمحة أو موقف، يقترب من مدفأة بالمصادفة، وبعد أن ينام فتمتد النيران إلى قدميه تحرقهما وينقذه أبوه، فيصنع له غيرهما، تكبر أنفه ولا ينقذه إلا طيور تدخل من الشباك وتعيد بنقراتها الأنف إلى طبيعتها، يد القدر دائما ترعاه في اللحظات المصيرية.
كنا ننتظر نهايتين: الأولى أن يعدو مع الزمن طفلًا عاديًا، والثانية أن يرحل مع انتهاء عمره الافتراضى.. المخرج بذكاء حرص على الجمع بينهما، وهكذا مر بمرحلتين: الأولى عندما يتحول إلى حمار ويستعان به في السيرك لتنفيذ الألعاب النارية ويصاب فيقررون إلقاءه في البحر وتنقذه الأسماك، فيعود مرة أخرى إلى طبيعته الخشبية. وتأتى المرحلة الأخيرة عندما يصل إلى شاطئ النهاية مقتربًا من الرحيل، ويستعيد المخرج الإيطالى قصة ميلاد السيد المسيح، وفى المغارة يتحول من حالة خشبية إلى طفل حقيقى، ويجرى فرحًا في القرية باحثًا عن أبيه ومرددًا أصبحت طفلًا، بينما الأب في اللقطات الافتتاحية كان يقول أصبحت أبًا.
ليس طبعًا فيلمًا للأطفال، ولكنه من الأفلام التي تصلح لكى يعايشها ويتذوقها الأطفال، وكل من لا يزال بداخله طفل يلهو ويشعر، وكلنا هذا الطفل!!.