بقلم : طارق الشناوي
البداية مِسك بفيلم (الأب)، وأمس كان ختامها مسكًا مع آخر أفلام المسابقة الرسمية (ليمبو)- التيه- الفيلم بريطانى الجنسية، إخراج بن شاروك، وبطولة النجم المصرى أمير المصرى.. صفقنا له كثيرًا بعد نهاية العرض، ليس للأمر علاقة بـ(الشوفينية) المقيتة، أقصد الانحياز المرضى لكل من ينتمى للوطن دون منطق أو وجه حق، انحيازى لأمير له أسبابه الموضوعية، حقًا أطال أعناقنا ونحن نرى هذا الفنان يقفز فوق الحدود ويقدم تلك المساحات الضاربة فى العمق والشاعرية والهمس من فن الأداء، أمير يؤدى دور شاب سورى يطلب حق اللجوء، يعيش فى قرية أسكتلندية تحت سطوة العزل، تقدم بطلب اللجوء للسلطات البريطانية، والأمر يتعلق قطعًا بإجراءات أمنية قاسية.. الشاب عازف عود، وتلك اللمحة تتيح للشخصية النفاذ لعمق المشاعر بأداء منغم وكأنه ممسك بالريشة، أمير مثل هؤلاء العازفين الاستثنائيين الذين لا يشعرونك بصوت احتكاك الريشة بالوتر، تستمع للأنغام دون شوائب الصنعة، وصل أمير إلى أعلى درجات التماهى.
القضية السورية متشعبة ومتعددة الأوجه، وعدد من المهرجانات تبدو أنها لا تراهن سوى على بشار الأسد، وتتبنى ما تنتجه مؤسسة السينما السورية باعتباره المعبر عن إرادة الشعب، رغم أن كل ما تُقدمه المؤسسة يعبر أساسًا عن توجهات السلطة، وبخاصة فى تلك السنوات التسع الحرجة عندما طالب الشعب بالحرية فكان الرد هو القتل والاعتقال والدمار، ولايزال الرجل يحكم قبضته على تفاصيل ما تبقى من الدولة، بقاؤه فى الحكم لايزال مرتبطًا بعدد من المعادلات التوافقية عالميًا، صُبت فى توقيت ما لصالحه.. وعلى الجانب الآخر هناك مخاطر تحيط بالدولة من الجماعات الإرهابية، مما جعل المشهد السورى معقدًا على الوجهين، ومهما كانت زاوية الرؤية، هناك مخاطر محدقة بالإنسان السورى وهو يتطلع للحياة.
المأزق الذى تعيشه المهرجانات: لمن تنحاز فكريًا وفنيًا؟!.. لدينا سينما تعبر عن المعارضة الشريفة التى ترفض بشار بقدر ما ترفض التدخل الأجنبى، وقبل كل ذلك الحكم الدينى، أيضا لا يمكن إغفالها.
مهرجان القاهرة حسم الموقف عندما اختار الفيلم الذى لا يختلف عليه أحد سياسيًا، لأنه يراهن أولًا على الإنسان.
يقدم معاناة الشعب السورى من قسوة السلطة، ومن تربص الآخرين بهم، ومن لهيب التيار الدينى الذى لا يتوقف عن التآمر ضد الشعب. السيناريو الذى كتبه المخرج يقدم تلك القيمة الفكرية من خلال التواصل بين أمير المصرى وأهله فى سوريا، الخيط الرفيع الذى اجتازه المخرج بنعومة وألق أنه لا يعلن تعاطفه مع فصيل سياسى، فقط ينحاز للإنسان.
السينما التى تتناول الشأن السورى تأتى إلينا وهى تحمل غالبًا جنسية أوروبية تتبع جهة الإنتاج، حتى لو قدمها مخرج سورى، مثل الفيلم التسجيلى الطويل (إلى سما) الذى كان مرشحًا فى العام الماضى لأوسكار أفضل فيلم أجنبى، ووصل للترشيحات النهائية، يُدين حُكم بشار، إلا أنه لا يمكن أن نتهمه بالانحياز أو العمالة لأنه يستند إلى وقائع، ورغم ذلك فإن ما قدمه الفيلم البريطانى (ليمبو) هو رؤية إنسانية، لا تقدم موقفًا مباشرًا يلقنه لك المخرج، ولكنه يحرك بداخلك السؤال عمن دفع سوريا إلى هذا الطريق المظلم!.
الشريط يميل فى كل تفاصيله المرئية والمسموعة إلى خلق حالة من الوحشة والخوف والترقب، والأسئلة التى تطرح، والنغمات التى يعجز الوتر عن عزفها.
أمير المصرى هو عنوان كل هذه التفاصيل، البعض يقول إنه أجاد نطق اللكنة السورية، كما أجاد الحديث بالإنجليزية، وهى تبدو لى اختصارًا مخلًا جدًا بالحقيقة، أمير أجاد الإحساس والتعبير، بل التماهى مع الشخصية.. وإذا كان لدينا مائة فنان يقدمون لهجة أو لغة مغايرة للغتهم سينجح من بينهم عشرة فى إتقانها، ومن بين العشرة سينجح واحد فقط فى إتقان التعبير. وأمير المصرى هو هذا الفنان الواحد. ساءنى جدًا وصفه فى بعض المراجع بأنه فنان له جذور مصرية، وربما أوافق على مضض أن نصف نجومنا العالميين، رامى مالك ورامى صبرى أو مينا مسعود، بأنهم قدموا أعمالهم خارج مصر، بينما أمير المصرى مصرى جدًا جدًا، بدأ حياته الفنية وهو دون العشرين بمصر، ويحمل جواز سفر مصريًا ورقمًا قوميًا مصريًا، فلماذا تطلق عليه المراجع توصيف مصرى الجذور، بينما الجذر والفرع وقبل كل ذلك العمق والإحساس مصرى قُح؟!.
■ ■ ■
مساء أمس أُطفئت أنوار الدورة الـ 42، وبالقطع، شاب المهرجان أخطاء تنظيمية، عدد منها مجانى، لا يمكن سوى أن نرصدها وعلى محمد حفظى وفريق العمل تلافيها فى الدورات القادمة، وفى نفس الوقت أتمنى ألا يصبح الهدف هو اغتيال التجربة برمتها بالنفخ فى الأخطاء حتى تحجب الإنجازات.. رأيت البعض يوزعون الغنائم من الآن على حساب اسم مصر، المهرجان حقق قفزات عالمية لا يمكن إنكارها، الأوبرا صارت أقرب إلى عُرس عاشته مصر ثمانية أيام وليال، ولولا الاحتراز القاسى لامتدت ومضات هذا العرس لنرى القاهرة منورة بمهرجانها، المهرجان صار حقًا على خريطة العالم.
نعم.. هناك شوائب مثل (أيام القاهرة للصناعة)، وهى أهم إضافة للمهرجان يجب تلافيها فى الدورات القادمة، بحيث لا يصبح أحد الرعاة له يد فى هذه التظاهرة التى تشع فى روح المهرجان وتكسبه قوة وقيمة وعمقًا، كما أن تنظيم الدخول للأفلام بحاجة إلى قواعد أكثر مرونة، مع يقينى أننا نعمل تحت سطوة 50% فقط من الطاقة الاستيعابية للصالات بسبب كورونا، كما أن مستوى الأفلام المرتفع داخل وخارج المسابقة مما زاد عدد من يقفون على باب الدخول، تنظيم عروض العاشرة صباحًا فى أكثر من سينما للإعلام والصحافة للأفلام المهمة أظنه حلًا بسيطًا ينهى تمامًا هذه المشكلة.. يستحق حفظى وفريقه أن نقول لهم «أحسنتم» بدلًا من أن نرى الكراسى يتم تجميعها من الآن، حيث بدأت ساعة استعداد التحطيم (الكلوب)!!.