بقلم : طارق الشناوي
قبل بضعة أشهر قلت للسيدة العظيمة د. ليندا (الناس تعتبرك قديسة، جورج سيدهم طريح الفراش منذ ربع قرن ومن وقتها وكل حياتك وقفا عليه، كان من الممكن أن يقيم فى مستشفى وتذهبى إليه يوميا).
قالت (إذا اعتبرت أنى أمنح جورج شيئا فهو يمنحنى كل شىء، أنا مدينة له بعمرى، وأتواصل معه فى كل لحظة، لدينا شفرة خاصة تتجاوز أبجدية الكلام، هو الذى يمنحنى الحياة أنا التى أحتاج إليه، أتكئ عليه عندما تتعثر خطواتى، ويواسينى بطبطبة يديه عندما تنهمر دموعى).
لم تتوقف علاقتى مع جورج، برغم ابتعاده عن الدائرة الفنية، وفى الأعياد بيننا تليفونات، وتصلنى بصوته حروف كلمات تعنى السعادة وكالعادة تُكمل الباقى د. ليندا، آخر مرة رأيته قبل نحو عام ونصف فى الاحتفال بعيد ميلاده الثمانين، الذى أقامته له رفيقة مشواره الفنانة القديرة الراحلة نادية لطفى، فى مستشفى المعادى العسكرى، حيث كانت نادية تتلقى العلاج، لبيت الدعوة حتى ألتقى مع فنان الكوميديا الراقية جورج سيدهم الذى ملأ الدنيا دفئا.
جورج هو نجم الحفل بإشعاعه الساحر، زادته محنة المرض حضورا ولمحت فيضا من الرضا والنور على وجهه.
سألت مرة سمير غانم هل تتفق مع الرأى القائل إن عنوان جيلكم هو عادل إمام؟ أجابنى عادل هو الأذكى واستمراره فى التألق لا يحتاج إلى تأكيد، ولكن هذا لا يعنى حجب عطاء الآخرين، إنه زمن عادل وجورج وسمير وسعيد ويونس، إحنا الخمسة شكلنا نبضا وزمن جيل جديد للكوميديا مغايرا عن الجيل الأسبق، وأعنى به الأساتذة فؤاد المهندس ومدبولى وعوض.
عندما حصل سمير على جائزة فاتن حمامة التقديرية من مهرجان القاهرة، سألت د. ليندا أن أحصل على كلمة من جورج فقال (حبيبى سمير تكريمك يا صديق العمر هو تكريم لى، لمشوار قطعنا بدايته معا، وتكريمى هو تكريم لك، أسعدت الملايين فأحبك الملايين، سمير حبيبى ألف مليون مبروك).
جورج والضيف وسمير هذا الثالوث أول من بدأ انطلاق الفوازير مطلع الستينيات مع بدايات التليفزيون المصرى وعلى مدى تجاوز عشر سنوات استمر عطاء الثلاثى حتى بعد رحيل الضيف أحمد.
ظل جورج حاضرا فى الحياة محتفظا بكل قواه العقلية والإدراكية، فقد جزءًا كبيرا من القدرة على الحركة والكلام، إلا أنه كان متابعا جيدا لكل ما تبثه (الميديا)، ومعه بوصلة هى د. ليندا. كان جورج مضربا عن الزواج وعندما شاهدها فى الصيدلية شعر وكأنه كان يبحث عنها طوال حياته.
شاهدت مراسم الزواج فى الكنيسة وبعدها فى أحد الفنادق الكبرى أتذكر جيدا أن المطرب الشعبى شفيق جلال غنى لصديقه (شيخ البلد خلف ولد)، ثم استبدلها فى الإعادة (قسيس البلد خلف ولد)!!.
لم يترك لنا جورج سيدهم رصيدا كبيرا بالعدد، ولكن ما أبدعه نحن إليه كثيرا، مع مطلع الستينيات ظهر هذا الثلاثى باعتباره معادلا موضوعيا لزمن التليفزيون، الثلاثية تعنى أن تُضحى بنجوميتك كفرد لصالح المجموع، كان الجمهور ينقسم فى حبه بين الثلاثة، جورج بملامح الطفولة التى لم تغادره، ينشرح قلبك بمجرد رؤيته، الضيف أحمد بجسده النحيل وكنا نراه العقل المفكر للثلاثى، فهو يجيد منح الآخرين الفرصة لتحقيق أعلى معدلات الضحك، سمير غانم الطويل الأصلع قبل أن يرتدى الباروكة القادر على سرقة الضحك، ومن خلال فوازير الأبيض والأسود كانت هى الملعب الأساسى لهذا الثلاثى، عندما وقع اختيار المخرج محمد سالم عليهم، جورج لديه حالة من الشجن النبيل يمنحها للشخصية، أتذكر دوره فى إحدى الفوازير (أحدب نوتردام) فكان ينشد وتبكى معه (يا بختك يا حجر/ يا ريتنى كنت قاسى/ وقلبى من حجر/ يا بختك يا حجر)، المساحة الإبداعية التى تحرك فيها جورج على ضآلتها تألق فيها مثل أفلام (الشقة من حق الزوجة) عمر عبد العزيز و(الجراج) علاء كريم، ولا أنسى له فى البدايات (خان الخليلى) عاطف سالم..
رأيته آخر مرة مثل الملائكة شعاع الرضا والنور يملأ وجهه، وقبل ساعات غادرنا الملاك وترك فى قلوبنا شعاع الرضا والنور!!.