بقلم : طارق الشناوي
كانت نقابة السينمائيين برئاسة مسعد فودة مشغولة طوال الأسبوع الماضى بإصدار بيان، من أجل تلفيق لعبة مكشوفة لاختيار فيلم يحمل اسم مصر للمشاركة فى مسابقة الأوسكار (92) دون رغبة الأغلبية، بل إن جزءا كبيرا من الأقلية التى رشحته صرحت فى اللقاءات الجانبية بأنه فيلم متواضع، أتحدث عن فيلم (لما بنتولد) وأطالب الدولة بالتحقيق فى تلك المخالفة الفجة لتبرير المأساة التى نعيشها، عندما يستجيب المسؤول لصاحب الصوت العالى لمجرد أنه سليط اللسان، ينهش لو لزم الأمر فى الأعراض، تجد أنيابه وقد استيقظت من مكمنها، لتمارس فعل القتل، مثلما يمارس الأسوياء قزقزة اللب والسودانى.
نقيب السينمائيين يبدو لى فى كثير من الأحيان مثل (عليش) بطل رواية (طريد الفردوس) لتوفيق الحكيم، هو لا يشارك أبدا فى معصية ولا يرتكب خطأ فما بالكم بالخطيئة، ولكنه أضعف من أن ينطق بكلمة الحق أو يدافع عنها، يتجنب دفع الثمن، خوفًا من أن تصيبه الشظايا.
مصر تتعرض لضربات بين الحين ممن هم منوط بهم الحفاظ على جمالها وقوتها الناعمة، البعض أمام أى مكسب صغير يتنازل عن كل قناعاته. دخلنا فعلًا تاريخ الأوسكار من أبشع أبوابه، مصر تحتل المركز الأول بين كل دول العالم فى عدد مرات المشاركة فى مسابقة (الأوسكار) وتحتل أيضا المركز الأول عالميًّا فى عدد الهزائم، التى منيت بها، نشارك غالبًا فيما عدا مرات قليلة، لمجرد أن يكتب فى (سى فى) المخرج أنه شارك فى (الأوسكار)، ثم نخرج مع أول تصفية فى مسابقة أفضل فيلم أجنبى، يبدو أننا لا ندرك- أو يدرك البعض ثم يضرب تعظيم ( طناش)- الفارق بين أن تمنح جائزة محلية لفيلم داخل البلد هو فى النهاية لا يُمثل سوى مخرجه، ومن الممكن فى أسوأ الحالات، تمرير المجاملة، بينما خارج الحدود فإن الفيلم يمثل الوطن، فنقول «فيلم سويدى أو يابانى»، وهكذا على سبيل المثال. هذا العام فى أوسكار أفضل فيلم أجنبى، السينما العربية لها أربعة أفلام تمثل بلادها، السودان (ستموت فى العشرين) لأمجد أبوالعلا، تونس (الرجل الذى باع ظهره) لكوثر بن هنية، والأردن (200 متر) لأمين نايفة. أفلام رائعة شاهدتها جميعا فى (الجونة)، ثم الفيلم الرابع الأهم والأعلى فنيًّا وفكريًّا وتقنيًّا الذى شاهدته فى (القاهرة) يمثل فلسطين بالأوسكار، (غزة مونامور) للأخوين التوأم عرب وظرزان ناصر، الأفضل عربيًّا فى عام الجائحة، والفيلم إنتاج مشترك بين عدد من الدول ولكن تظل الهوية الفلسطينية حاضرة فكريًّا وأيضًا إنتاجيًّا.
الروح المصرية تنساب فى أحداث الشريط. لا أعنى الأغانى والأفلام المصرية التى تتخلل اللقطات بنعومة وأيضا اللهجة القريبة جدًّا من المصرية. تلك تبدو تفصيلات مباشرة، ولكن روح بناء الفيلم تذكرك بأفلامنا القليلة الحلوة.
الفيلم شارك الأخوان ناصر كتابته، يقول كل شىء بخفة ظل وهدوء، وكأنه وهذا أجمل ما فيه، لا يقول أى شىء، يمنح المشاهد البداية لتكمل أنت، يبدأ بكلمة لتنطق أنت الجملة، يمنحك لقطة لترسم أنت باقى المشهد. البطل الممثل سليم داو فى العقد السادس من عمره ولكنه ينتظر الحياة، بكل أبعادها، صائد السمك الذى يطرح الشبكة وينتظر كلمة الله، يأكل من رزق الله «مشوى ومقلى وكفتة» وإن كنت لا أدرى سببًا أن السمك يخرج كل مرة نافقًا من البحر، حركة السمك فى الشبكة، كانت ستضفى الكثير.
كيف تتغير حياة الناس تنقلهم من الحياة الرتيبة مركب صيد وحياة تقريبا لا تتغير معالمها، البحر يمنحه تمثال «أبولو» كما أنه يشعل حبًّا جارفًا لامرأة خمسينية الممثلة الرائعة هيام هباس، الأداء التمثيلى لافت، والمساحة التى لعب فيها البطل مبهجة للروح، السلطة الفلسطينية فى غزة تبدأ فى مطاردته من أجل التمثال الذى اكتشفوه بالصدفة فى واحدة من المداهمات التى تجريها السلطة هناك، «أبولو» إله الفن والموسيقى والشعر والنبوءة والجمال والتألق، فى الأسطورة اليونانية.
وهكذا تبدو السلطة وهى تحيك الاتهام أنها تريد أن تطارد كل هذه القيم النبيلة، يُكسر عضو التمثال الذكرى ويسلمه للشرطة ويحتفظ هو بهذا الجزء، بما يعنيه من ظلال العجز عن الفعل، البطل لا يزال يصر على أن يختار من يريد الزواج منها وهى بائعة ملابس حريمى وتعمل أيضًا بحياكتها، بينما شقيقته تقدم له أكثر من عروس إلا أن قلبه هناك.
المخرجان «ناصر» لا يقولان أى شىء فى الحوار، ولا الأحداث تنطق بأى موقف مباشر، ولكننا نتابع كل شىء يطل على المقاومة الفلسطينية للاحتلال على حياة البشر وتعنت السلطة الفلسطينية مع الفلسطينيين، كما أن إسرائيل تمارس أفعالها الشريرة بين الحين والآخر، كل هذا يدخل مباشرة إلى الروح بإبداع وهمس سينمائى، حتى نصل للذرة ضحكة مشتركة عندما يطلب منها الزواج ونجد الثلاثة يضحكون، شاركتهما ابنتها الوحيدة.
الفيلم الأقوى عربيًّا داخل المسابقة والأحلى بين أغلب أفلام المسابقة بعد أن شاهدت قسطًا معتبرًا منها. يجب أن نذكر أن فريق المبرمجين الذين يقودهم حفظى حقق إنجازا هذا العام، رغم كل ما نراه من تراجع فى أغلب المهرجانات العالمية كمًّا وكيفًا، واجه فعلًا القاهرة تراجعًا كميًّا فقط فى أغلب المسابقات الموازية للدولية، بينما المسابقة الرئيسية حظيت بالأهم والأقوى، ولا أستبعد أبدًا أن يتردد أكثر من مرة عند إعلان النتائج الخميس القادم اسم «غزة مونامور»، وأن يتردد مرة أخرى فى نهاية إبريل القادم عند إعلان نتائج الأوسكار «غزة مونامور»، بينما نحن نعيش الهزيمة و«عليش» فى نقابة السينمائيين لا يزال صامتًا!