بقلم : طارق الشناوي
متمرد على كل القيود (مالوش عنوان)، جاء للدنيا من أجل الحرية يعيشها ويبشر بها ويغنى لها، محمد منير لا يردد فقط كلمة موحية ولا نغمة حانية، منير يقدم منير كما خلقه الله، بإحساسه الدافئ، وشعره المنكوش، وأغنياته التى تشبهه هو فقط ولا تليق على أحد غيره، كان هو نجم حفل الافتتاح بمهرجان الموسيقى العربية، ارتدى بدلة، حتى لا يجرح طبيعة وقانون المكان، ولكنه ساومهم على (الجرافت)، مجرد أن يغنى منير فى مكان مغلق تحده الجدران من كل جانب، ويتسع لعدد محدود من البشر، هى المعضلة الكبرى، جمهور منير مترامى الأطراف والمشارب، كل الأعمار والطبقات والثقافات، الذين يجمعهم الإيمان بالصدق، يجتمعون على حبه، فكيف نغلق دونهم الباب، وضعت شاشات خارج دار الأوبرا حتى لا تحرم العشاق من منير.
تواجد منير فى حفل رسمى، ومكان بطبعه رصين يحمل دلالة خاصة، تكريم على إنجازه الغنائى على مدى 40 عامًا، والمهرجان يحمل اسم مصر، كان ينبغى أن يلبى النداء، جاء المرض فى توقيت قاسٍ، الانزلاق الغضروفى لا يسمح له بالوقوف، هل تتخيل منير يغنى محلك سر، فما بالكم لو كان المطلوب أن يصاحبه كرسى، الموعد محدد سلفًا، لا يمكن تأجيله، والمرض بلا موعد يحتل الجسد.
فى البداية لم أتقبل الأمر، الحركة على المسرح جزء رئيسى من التعبير، الكلمة تسكن قلوبنا بلغة الجسد، فكيف لهذه الطاقة الإيجابية أن يقيّدها كرسى، ثم إن المتفرج قد يسكنه إشفاق، وهو أسوأ إحساس من الممكن أن يتحمله فنان، بمجرد أن وقف منير لمدة ثوان على المسرح وحيّاه الناس وأخذ درع التكريم، ثم جلس على مقعده، نسينا جميعًا أن منير مقيّد الحركة، كانت أحاسيسه تلعب هذا الدور، تراجعت كل مشاعر الإشفاق لتتحول إلى تماهٍ مع صوت عابر للأجيال، فهو يمثلنى ويمثل جيلى وكل الأجيال التالية، صوته يحمل ملامحنا وملامح من جاءوا بعدنا، لسان حالنا على كل المستويات، العاطفى مع من نحب، والسياسى عند من يحكمنا.
الأصوات المتفردة لا تُقاس بالقوة ولا الاكتمال، لا تتمتع بالضرورة بتلك المواصفات الصارمة، ولكنها تملك ما هو أبعد وأعمق من كل ذلك، إنه الإشعاع الخاص، منير هو النموذج، صوت ملهم للكاتب والملحن، يحمل مفردات شعرية وموسيقية مكتوبًا عليها اسمه، من يتعامل معه عليه أن يستوعب تمامًا تلك الأبجدية، عندما يغنى لآخرين مثل (الدنيا ريشة فى هوا) سعد عبدالوهاب، أو (شىء من بعيد نادانى) ليلى جمال، أو (أنا بعشق البحر) نجاة، ينتقل بهذه الأغنيات إلى وجدانه وملعبه ومذاقه.
غنى من تلحين الموسيقار كمال الطويل، أتصورها هى اللحظة الحرجة التى كان يمسك فيها الجميع بـ(شعرة) واحدة خوفًا من أن تنقطع.
الطويل لا يتنازل على توجيه الصوت للأداء كما يريد، وليس كما تعود المطرب، الطويل يضع أسلوب الغناء فى مقدمة أهدافه، ومنير له طبيعته العصية على التغيير.
قدم له أكثر من لحن رائع، يقف (لسه الأغانى ممكنة) على القمة، وستلمح أن الطويل يأخذ شيئًا من منير ليمنحه بنبض الطويل لمنير.
لم أشعر أن صديقى ومطربى وعنوان جيلى يغنى جالسًا، كنا نُحلّق جميعًا معه، اخترقنا سقف الأوبرا وانطلقنا نحو السماء!!.