بقلم : طارق الشناوي
اكتشفت وأنا أستعيد قراءة أرشيف الفنان الكبير فؤاد المهندس، أن الرئيس جمال عبدالناصر بعد هزيمة 5 يونيو 1967، والتى أطلقنا عليها على سبيل تخفيف الوطأة (نكسة)، كان يراهن على الفن.. سبق أن أشارت د. درية شرف الدين فى رسالة الدكتوراه عن السينما والسياسة إلى أن الرئيس منح الضوء الأخضر لزيادة هامش الانتقاد، وهو ما صب فى صالح تماسك الجبهة الداخلية.
الهدف أن يصبح وجدان الشعب حائط الصد الأول لإيقاف سطوة سيطرة سلاح الجو الإسرائيلى على السماء المصرية، اكتشف عبدالناصر أن من بين الأسلحة الضحك والسخرية، لأنهما الطريق السحرى والمضمون للوصول إلى شاطئ الأمان، كان الرئيس غاضبًا من (النكت) التى ملأت الشارع ضد قواته المسلحة، وهو ما أشار إليه فيلم (الممر)، وفى نفس الوقت كان يرى أن للكوميديا دورًا حيويًّا لهزيمة الهزيمة.
فؤاد المهندس قال فى مذكراته، إن المسلسل تم بناء على اقتراح من جمال عبدالناصر، المؤكد حتى لا يذهب خيال البعض إلى أبعد مما هو مطلوب أن جمال لم يمارس الكتابة إلا فقط فى نصف رواية (فى سبيل الحرية)، كتبها وهو طالب فى المدرسة الثانوية، متأثرًا بـ (عودة الروح) لتوفيق الحكيم.. طلب عبدالناصر من الإعلام ألا يظل متجهمًا وحزينًا، وأن يبعث روح الطمأنينة فى نفوس المواطنين، فقرروا اختيار توقيت الذروة وهو شهر رمضان، وتم تكليف الساخر الكبير أحمد رجب للكتابة، وتحمس للتنفيذ نجم الكوميديا الأول فى ذلك الزمن فؤاد المهندس مع توأمه شويكار، وكان يوسف وهبى داعمًا لهذا المسلسل بتواجده كبطل مشارك.
المستمعون ربما يتذكرون «التتر» الموسيقى الذى هو بمثابة رؤية عبثية أحالت أغنية وطنية شهيرة يقول مطلعها (بلدى يا بلدى/ بلد الأحرار يا بلدى) لتصبح (شنبو يا شنبو/ والله ووقعت يا شنبو)، وأشرف الموسيقار كمال الطويل صاحب اللحن الأصلى على التنفيذ، ولم يعتبرها أحد سخرية من نشيد وطنى يتغنى بأمجادنا.
الشعوب القوية تملك القدرة على السخرية حتى فى عز الانكسار، وهذا دليل ملموس على تعافيها من سطوة الإحباط.
نجوم الكوميديا يلعبون أدوارًا لصالح الوطن فى معاركه المصيرية، كثيرا ما يحدث التلاقى بين ما تريده السلطة وما يرنو إليه الشعب، وتجد ذلك واضحًا فى تلك السلسلة من الأفلام التى لعب بطولتها عادل إمام، وكتبها وحيد حامد، وأخرجها شريف عرفة، مثل «اللعب مع الكبار» و«الإرهاب والكباب» و«طيور الظلام» وغيرها، كان الهدف الجماهيرى والرسمى فى التسعينيات هو مواجهة التطرف الذى يتدثر عنوة بالدين، ضمير الفنان يدفعه لقراءة صحيحة للواقع.
لو عدت مثلًا لمطلع ثورة يوليو 1952 ستكتشف أن الجمهورية الوليدة توجهت إلى إسماعيل يس، للمساهمة فى تحقيق واحد من أهم المبادئ الستة للثورة، وهو إقامة جيش وطنى قوى، فقدم «سُمعة» منذ منتصف الخمسينيات أفلامًا بدأت بـ (إسماعيل يس فى الجيش)، وتتابعت الأسلحة مثل (الطيران) و(الأسطول) و(الشرطة العسكرية)، وأغلبها إخراج الضابط السابق الذى تفرغ للسينما الكوميدية، فطين عبدالوهاب، لأنه أدرى بالتفاصيل العسكرية.
فى حياة الفنانين لمحات تستطيع من خلالها قراءة الزمن بكل أبعاده، (كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة) كما قال النفرى، وهكذا من كلمة عابرة لفؤاد المهندس، ترسم ملامح زمن وكفاح وطن، ومن (شنبو) نرى كيف كانت الدولة تجيد استخدام قواها الناعمة لحماية وجدان الشعب