بقلم - طارق الشناوي
آفة حارتنا الآن هى (النت).. صرنا نستسلم له، رغم أن جزءًا كبيرًا من المعلومات المتداولة تنقصها الدقة، هذا إذا لم تكن تخاصم تماما الحقيقة، وليس هذا وليد هذا الزمن، فى الماضى، كنا نخضع أيضا للعديد من الحكايات توارثناها ممن سبقونا، وتعيد الصحافة نشرها بدون تمحيص ولا مراجعة، رغم أن المنطق يكذّب الكثير منها.
بعض الفنانين دفعوا ثمن تلفيق عدد من تلك الحكايات. فى الماضى، كان من الممكن أن تغنى تعاطفًا مع أهل الفن وتجد أيضا من يردد وراءك (عينى علينا يا أهل الفن /يا عينى علينا).
هذا المونولوج له قصة، زمنها نهاية الأربعينيات، عندما أراد إسماعيل ياسين السخرية من تعبير كان ولا يزال شائعا (أغنياء الحرب)، فى كل الدنيا هناك من يستثمر مصائب الناس، وتحديدا عندما يُصبح مصابا جماعيا مثل الحروب وتوابعها من دمار وتشريد.. وهكذا غنّى سُمعة للشعب على نفس الوزن والإيقاع والنغمة (عينى علينا يا فقرا الحرب / يا عينى علينا /عدى الحرب / ولسه الكرب/ بيلعب بينا).
ملحوظة: ليس لدىَّ يقين عمن هو الشاعر الذى كتب هذا (المونولوج)، غالبا أحد الموهوبين المظلومين فى تاريخنا الغنائى واسم الشهرة (ابن الليل).
كان من الممكن التعامل مع تلك الكلمات ببساطة، إلا أنه مع نهايات الحرب بزغ التوجه الشيوعى الذى كان يتزعمه (الاتحاد السوفيتى)- سابقا- قبل أن يسمى (روسيا) بعد تحلله إلى عدة دول عام 91، كان الخوف القائم لدى المعسكر الغربى، وعلى رأسه أمريكا، هو الفكر الشيوعى الذى سيطر على المشهد العالمى، مواكبا للحرب الباردة بين الكتلتين الشرقية والغربية، وأصبح هناك ما يعرف بـ (المكارثية)؛ نسبة إلى عضو مجلس نواب أمريكى جوزيف مكارثى، كان يحاسب الناس فى أمريكا على ما يعتقد أنها ميولهم الدفينة.. وهكذا مثلا لاحق الاتهام بالشيوعية أيقونة الكوميديا فى العالم ولا يزال «شارلى شابلن». والغريب أن الوشاة كانوا أيضا فنانين، وبعضهم لا يمكن إنكار موهبتهم، مثل المخرج إيليا كازان، الذى اعترف بعد إسقاط المكارثية بأنه كان مضطرا تحت ضغوط الأجهزة لأداء هذا الدور.
مثل هذه الاتهامات لاحقت الكثيرين فى مصر.. آخر من يمكن أن توجه له هو إسماعيل ياسين، من الواضح أن إدارة الرقابة التى كانت تابعة وقتها لوزارة الداخلية اعتبرته يدعو للشيوعية؛ لأنه يناصر الفقراء ضد الأغنياء.. ملحوظة الرقابة تحكمها أحيانًا تلك النظرة المتحفظة والمتحفزة، التى بدأت تعلن عن نفسها منذ فيلم (العزيمة) لكمال سليم فى نهاية الثلاثينيات، حيث أصرت على تغيير اسمه الأول (الحارة)؛ لأنها رأت فى العنوان انحيازًا للطبقة الفقيرة.
دعونا نضع نقطة ومن أول السطر، ونفكر معا كيف يُتهم (سُمعة) بالشيوعية، رغم أنه لا يمكن أن يعرف الفارق أساسا بين الشيعى والشيوعى، هذه هى شريعة الأجهزة عندما تأخذ بظاهر الأمور، يغنى من أجل الفقراء، فهو إذن يكره الأثرياء ويدعو للثورة.. ماذا فعل سُمعة؟، أعاد بعد سنوات قليلة تقديم المونولوج بكلمات أخرى (عينى علينا يا أهل الفن / يا عينى علينا).. نعم، عينى عليهم وعلينا، وقتها كان من الممكن أن تلحظ تعاطفًا ما مع الفنانين، على عكس هذا الزمن، تلاشى تماما أى إمكانية لخلق أى قدر من التعاطف. الصورة الذهنية للفنان فى الضمير الجمعى حاليا ليست أبدا فى صالحه.. وتلك حكاية أخرى!.
ويبقى الدرس الأهم؛ إن علينا ألا نستسلم للأحكام المطلقة ونتناقل الحكاية المختلقة ونردد مثلهم «إن إسماعيل ياسين كان شيوعيا»، بينما هو فى الأمور السياسية (أبيض يا ورد)!.